تغيرت الدنيا في الولايات المتحدة والعالم من حول الاستراتيجية الأميركية التي كان أساسها بناء قوة عسكرية قادرة على خوض "حربين كبيرتين ونصف حرب" في وقت واحد. وهي القوة التي ورثها الرئيس جورج بوش الابن، واستخدمها في حربين متوسطتين ونصف حرب، حرب أفغانستان، وحرب العراق، والحرب على الإرهاب. ريتشارد هاس وصف أميركا في تلك المرحلة بأنها "قوة عظمى مارقة". والمؤرخ تيموتي مارتن آش وصفها بأنها "عملاق قلق". وما كان أمراً خارج حسابات النخبة ومراكز القوى، توظيف عوامل عدة في ترتيب الظروف لانتخاب باراك أوباما رئيساً من أجل إجراء تحول في الاتجاه الاستراتيجي. وأوباما كان جاهزاً للمهمة، لكنه أبلغ معاونيه أن سياسة أميركا الخارجية مثل "سفينة في محيط". وتغيير اتجاه السياسة يحتاج إلى وقت ويجب أن يتم ببطء ودقة مثل تغيير الاتجاه في السفينة العملاقة. وهو أخذ وقته لكي يتبنى وينفذ استراتيجية "القيادة من المقعد الخلفي" التي رآها خصومه الجمهوريون "كارثة". أما مع الرئيس دونالد ترمب الذي مارس السلطة في أقوى منصب في العالم بالمزاج وتغريدات "تويتر"، فإن من الصعب الكلام على استراتيجية في عهده. لا بل إن البيت الأبيض في أيامه، كما وصفته المتحدثة السابقة باسمه ستيفاني غريشام، كان مثل "سيارة مشتعلة يقودها مهرج في مصنع للألعاب النارية". وأما الرئيس جو بايدن، فأكمل استراتيجية أوباما لتصبح "القيادة عن بُعد".
وهذا طبعاً هو الوجه الآخر لاستراتيجية التركيز على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ ومواجهة تحديات الصين وروسيا. الوجه المتعلق بالشرق الأوسط خصوصاً. بايدن أكد خلال الحملة الانتخابية وبعد الوصول إلى البيت الأبيض أن "أميركا عائدة إلى القيادة"، كيف؟ عبر"قوة مثالها الديمقراطي"، لا عبر "مثال قوتها". ومن خلال دبلوماسية متعددة الأطراف". لكن المثال الديمقراطي الأميركي لم يعد كما كان. يكفي هجوم الغوغاء على الكونغرس لمنعه من إعلان فوز بايدن، كمثال معاكس.
في عام 1830 سافر ألكسيس دوتوكفيل من فرنسا إلى أميركا من أجل أن يجد جواباً عن سؤال مهم، لماذا انهارت تجربة الديمقراطية والأخوة بعد الثورة الفرنسية، ونجحت في أميركا بعد ثورة الاستقلال؟ ووجد أجوبة عدة تحدث عنها في كتاب "ديمقراطية في أميركا". لكن أكثر ما لفت نظره هو فن الترابط، والجمعيات، والاتحادات الزراعية والصناعية والمهنية، والديمقراطية المحلية، وديمقراطية المدن الصغيرة، والتصويت في قاعات البلدية وفي المدارس وحتى في الأسرة، والفيديرالية. أما فرنسا، فإن "فلاسفتها صاغوا أفخم المبادئ، لكن الشعب افتقد الترابط بين أبنائه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اليوم تبدو أميركا في حرب هويات. حرب ثقافية. "برية جديدة صارت الديمقراطية فيها مستحيلة" في رأي أن أبلبوم وبيتر بوميرافستيف في "أتلانتيك". وهما يضيفان، إذا كان نصف البلد لا يستطيع سماع النصف الآخر، فإن الأميركيين لم تعد لديهم مؤسسات مشتركة، ومحاكم غير سياسية، وإدارة مهنية، وسياسة خارجية عابرة للحزبَين، ولا يستطيعون التسويات ولا اتخاذ قرارات جماعية".
الواقع أن الانقسام السياسي صار أيضاً انقساماً اجتماعياً وثقافياً. نصف الشعب يؤمن بنظريات "المؤامرة" ويرى المختلف معه عدواً. وترمب ليس شخصاً بمقدار ما هو مهرج ركب موجة شعبوية قادته إلى البيت الأبيض وبقيت تحمله على الرغم من كل فضائحه. لا بل إن فرنسيس فوكوياما يرى أن "أزمة الانحلال السياسي" مستمرة. وكثيرون يتخوفون من حرب أهلية وانقسامات بين الولايات "الحمر" الجمهورية والولايات "الزرق" الديمقراطية. أما في الخارج، فلا شيء اسمه استخدام القوة، لا في حروب كبيرة، ولا في حروب متوسطة. حتى الحرب على الإرهاب التي هي نصف حرب، فإنها صارت "حرب احتواء" لا أكثر. وأما السلاح الذي تستخدمه الإدارة في استراتيجية "القيادة عن بُعد" فإنه الدبلوماسية والدولار وتحالف الديمقراطيات. القوة الناعمة، وقوة العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية، وقوة التحالفات. وهذه لها حدود. وقديماً قال الإمبراطور فريديريك الكبير، "الدبلوماسية بلا قوة مثل الموسيقى بلا آلات".