عددهم بالآلاف في تونس، يحدوهم أمل كبير في العثور على متبرع، يخرجهم من دائرة الحيرة والألم، ويعيد إليهم بهجة الحياة، إنهم مرضى القصور الكلوي.
بين الألم والأمل خيط رفيع
ألفة معلى، تونسية تكابد آلام تصفية الدم في ثلاث مناسبات أسبوعياً، تحدثت إلى "اندبندنت عربية" عبر الهاتف بصوت متقطع، ممزوج بالألم بسبب المرض، ومدفوع بالأمل في أن تحظى يوماً ما، بمتبرع بكلية تضع حداً لمعاناتها طوال أكثر من 30 سنة.
ووصفت معلى الوضع قائلة "إن المحكوم بالمؤبد يمكن أن يقضي 20 سنة ثم يطلق سراحه، أما نحن مرضى القصور الكلوي فمحكوم علينا بالمؤبد، من دون أمل في أن يطلق سراحنا يوماً ما"، إلا أنها استدركت بالقول "يبقى الأمل موجوداً إلا أن لحظات الضعف تذهب بي بعيداً أحياناً، وأحس بالعتمة تسكن قلبي". وأضافت، "أنتظر دائماً اتصالاً من أحد أطباء مركز النهوض لزرع الأعضاء من أجل زرع كلية، وهو أملي وأمل كل مرضى القصور الكلوي".
وتحدثت المواطنة التونسية المريضة عن صعوبة الحصول على كلية من أحد أفراد عائلتها، بسبب عدم التطابق مع جسمها.
ألفة معلى واحدة من أكثر من 14 ألف تونسي وتونسية يخضعون حالياً لعمليات تصفية الدم، يُضاف إليهم 500 مريض سنوياً.
أكثر من 1600 على قائمة الانتظار
تلك هي وضعية آلاف التونسيين إزاء مرض القصور الكلوي، ومعاناة تصفية الدم في مجتمع يعيش صعوبة في تقبل فكرة التبرع بالأعضاء، على الرغم من الجهود الكبيرة التي يقوم بها المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء، من خلال التوعية بأهمية الإقبال على التبرع بالأعضاء، أو الموافقة على التبرع بأعضاء أحد الأقارب المتوفين في حوادث الطرقات أو في حالات الموت الدماغي.
وصرح المدير العام للمركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء الدكتور الطيب بن عبدالله في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن "1644 مريض مسجلين على القائمة الوطنية للانتظار لزراعة كلى"، مضيفاً أن "نسبة نجاح عمليات زرع الكلى تكون عالية عندما يكون المريض حديث العهد بالمرض".
تاريخ زرع الأعضاء في تونس
وأشار ابن عبدالله إلى أن "زراعة الأعضاء والأنسجة قديمة في تونس، وبدأت أول زراعة قرنية بتونس عام 1948، بينما يعود تاريخ أول عملية زرع كلى في مستشفى شارل نيكول في العاصمة إلى 4 يونيو (حزيران) 1986، من إنسان حي إلى شقيقه، ومنذ ذلك التاريخ تعددت العمليات.
وفي عام 1993 جرت أول عملية زرع قلب في المستشفى العسكري بتونس، بينما تعود أول عملية زرع كبد في مستشفى سهلول إلى عام 1989"، لافتاً إلى "وجود كفاءات طبية قادرة على القيام بهذا النوع من العمليات، إلا أن المشكلة تكمن في العدد القليل من المتبرعين، مما لا يلبي حاجات المرضى على قوائم الانتظار".
وأكد ابن عبدالله أن "عمليات زرع الأعضاء تعطلت بشكل كامل خلال السنتين الماضيتين بسبب انتشار فيروس كورونا".
ويشترط المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء أن تكون هناك قرابة بين المريض والمتبرع تفادياً لإمكان عمليات البيع والشراء، وذلك بعد التحقق من أن نسبة النجاح عالية وتفوق 80 في المئة بعد إجراء التحاليل والفحوص اللازمة.
وأبرز مدير المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء أن "في العالم نسبة المتبرعين من المتوفين دماغياً تفوق 80 في المئة، من العدد الإجمالي للمتبرعين، بينما في تونس 80 بالمئة من عمليات زرع الكلى، تكون من إنسان حي إلى إنسان آخر، وهذا لا يلبي حاجات المرضى الذين هم في حال انتظار".
14 ألف تونسياً يحملون صفة متبرع
ويسمح القانون التونسي لكل مواطن أن يضع عبارة "متبرع" على بطاقة تعريفه، إلا أن عددهم لا يتجاوز الـ 14 ألف مواطن.
وخلص مدير المركز إلى أن "الظروف الأمنية والسياسية التي مرت بها البلاد حالت من دون أن يتطور قطاع التبرع وزرع الأعضاء في تونس". وبخصوص جهود المركز في التوعية بأهمية زرع الأعضاء، أضاف أن "المركز قام بحملات تحسيسية في الكليات وفي الشوارع، ونظم تظاهرات في مختلف المحافظات".
وحول أسباب رفض التبرع بالأعضاء، أوضح أن "هناك عدم ثقة إضافة إلى أن بعضهم يعتبر التبرع بالأعضاء محرم شرعاً، علاوة على وجود كلام عن تجارة الأعضاء، وهو ما جعل مهمة المركز حساسة وصعبة في الوقت نفسه".
وختم ابن عبدالله قائلاً إن "المركز يعتزم تنظيم ماراثون رياضي يشارك فيه عدد ممن تمتعوا بزرع كلى أو ممن تبرعوا، إضافة إلى عموم التونسيين للتوعية بقيمة التبرع، وذلك بمناسبة اليوم الوطني والعالمي للحض على التبرع بالأعضاء في 16 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي".
من التبرع إلى الزرع
وعن عمليتي التبرع والزرع، تؤكد الدكتورة بثينة زناد أن "المركز يضم عدداً من أطباء الاستمرار يعملون دواماً كاملاً، وهم على استعداد لتلقي المعلومة من مختلف المستشفيات بشكل فوري حول وجود حال موت دماغي، وإمكان الحصول على أعضاء لزرعها".
وأضافت أن "طبيبة الاستمرار في المركز تتولى التنسيق بين مختلف الفرق الطبية لأخذ العضو المتبرع به، بينما تتسلم فرق طبية أخرى مهمة زرع العضو عند المريض المصاب"، لافتة إلى أن "التنسيق يتم بين مختلف المستشفيات ويُستدعى المرضى الذين هم في قوائم الانتظار بحسب ترتيب تفاضلي، وفق جملة معايير ومن خلال تطبيق إعلامي، ضماناً لحقوق كل المرضى الذين هم على قائمة الانتظار.
وبعد التثبت من أن عائلة المتوفى دماغياً موافقة على التبرع، تبدأ الفرق الطبية عملها لاستئصال العضو وزرعه، وهي عملية معقدة تتطلب تنسيقاً دقيقاً وضمن وقت محدود".
وتابعت زناد أنه "في مرحلة ثانية يتم نقل المريض المصاب ووضعه في قسم الجراحة، مع البدء بإجراء التحاليل اللازمة بينما يبدأ الفريق الطبي باستئصال الأعضاء وهي القلب والكلى والكبد"، مشددة على "احترام الحرمة الجسدية للمتبرع من خلال جراحة تجميلية تجرى بعد استئصال الأعضاء".
نتقاسم فرحة العائلات
وأشارت زناد إلى أنه "يتم اختيار ثلاثة مرضى من أجل زرع كلية واحدة، ويتم تحضيرهم عبر إجراء التحاليل والفحوص الضرورية، وذلك تحسباً لأي طارئ مثل تعذر القيام بعملية الزرع للمريض الأول لأسباب صحية، فيتم عندها اللجوء إلى المريض الثاني أو الثالث".
وشددت على أن "عمل الفريق الطبي فيه جانب إنساني"، مضيفة أنها تتقاسم لحظات الفرح مع عائلة المريض عندما تتم دعوته للقيام بعملية زرع كلى، داعية إلى "تكثيف عمليات التبرع من أجل إنقاذ آلاف المرضى من المعاناة". وقالت إن "موضوع زرع الأعضاء مسألة مجتمعية تهم كل التونسيين".
ثقافة مجتمعية رافضة للتبرع
"ثقافة التبرع في المخيال المجتمعي التونسي لم تكن مزدهرة بما يكفي للتخفيف من معاناة المرضى"، وفق ما صرح المتخصص في علم الاجتماع الدكتور بالعيد أولاد عبدالله، وشرح أن "التبرع بالأعضاء ارتبط باعتقاد مجتمعي سائد يؤمن بالحرمة الجسدية ويرفض التبرع بالأعضاء، حتى ولو كانت فيها إعادة الحياة إلى نفس بشرية أخرى". وأضاف أن "هذا الاعتقاد غذاه ما يتم تداوله أحياناً عن تجارة الأعضاء، مما جعل التونسيين يعزفون عن التبرع لحساسية المسألة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعا المتخصص في علم الاجتماع إلى "مزيد من التوعية بالتعويل على وسائل الإعلام والمجتمع المدني في التحسيس بأهمية وقيمة التبرع بالأعضاء، لرفع عدد المتبرعين والتخفيف من معاناة آلاف التونسيين"، مشدداً على "أهمية الشفافية في التعاطي مع هذا الموضوع درءاً لكل الشبهات".
زوجتي وهبتني حياة جديدة
في سياق متصل، قال رئيس الجمعية التونسية لمرضى القصور الكلوي إسماعيل ضيف الله وهو منتفع بزرع كلية، إن "القدر" وضعه في هذا الدرب وبدأت رحلته مع مرض القصور الكلوي عام 1983. وأضاف، "وهبتني زوجتي حياة جديدة. زوجتي هي وطني وأمي وأبنائي، وعلى الرغم من أن الله لم يرزقنا أطفالاً إلا أنني أرى في عيون زوجتي أطفالاً يلهون ويمرحون".
وتحدث ضيف الله في البداية عن رفضه أن تتبرع له زوجته بكلية، اعتقاداً منه أنه سيلحق بها الأذى، إلا أن الإطار الطبي أقنعه بأن العملية ممكنة وليس فيها ضرر لزوجته.
وأكد أنه نذر كل جهده ووقته للتنويه بقيمة وأهمية التبرع بالأعضاء بعدما مزقته آلام تصفية الدم في ثمانينيات القرن الماضي، لافتاً إلى أن "التخفيف من آلام مريض لا يضاهيه أي مقابل"، مشيراً إلى أنه يتقاسم مع بقية مرضى القصور الكلوي معاناتهم من خلال الأنشطة التي تقوم بها الجمعية، في محاولة منه للتوعية بأهمية التبرع بالأعضاء وقيمة التخفيف من معاناة الناس.
صدقة جارية
وللإجابة عن التساؤلات الخاصة بحكم الدين الإسلامي في التبرع بالأعضاء، أصدر المركز الوطني للتبرع بالأعضاء دليلاً أعده أستاذ الفقه بجامعة الزيتونة الدكتور إبراهيم الشايبي، وقال فيه "وهل من تعاون أنبل من إنقاذ حياة أوشكت على الهلاك بعد أن أنهكتها العلل؟ وهل من برّ أعظم قدراً من تخليص مريض من السقم المميت؟". وأضاف أن "في التبرع بالأعضاء أجزل الثواب للمانح، باعتبار العضو صدقة جارية تسجل الحسنات في رصيد المتبرع ما دام ذلك العضو الذي كان سيوارى الثرى ويتحلل في التراب، نافعاً لحياة المنقول إليه".
وخلص الشايبي إلى أن "التبرع بالأعضاء يدخل ضمن الصدقات الجارية إن لم يكن أعظمها على الإطلاق"، والتبرع بالأعضاء في تقدير أستاذ الفقه في جامعة الزيتونة "أرقى أنواع الصدقات وأفضلها وأعز من الأموال".
ولا يزال التبرع بالأعضاء في تونس ملفاً حارقاً مجتمعياً وصحياً وإنسانياً، ويتطلب تظافر جهود كل الجهات المعنية من أجل نشر وعي جديد لدى الناشئة، يؤمن بالتبرع كقيمة إنسانية في شموليتها ويكون هدفها الأسمى هو الإنسان.