ليس من السهل إعادة تونس إلى حكم الفرد بعد "ثورة الياسمين". ولا هذا ما أراده ويعمل له الرئيس قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري الذي قام بأكبر مغامرة سياسية تكمل مغامرة الثورة على أيدي الشعب.
شيء من جرأة المسؤولية في مواجهة "الخطر الداهم" بقوة الدستور عبر تجميد البرلمان وإقالة الحكومة والإمساك بكل السلطة لمرحلة انتقالية بقرار رئاسي يوم 25 يوليو (تموز) الماضي. وشيء من جرأة التحدي والرؤية المستقبلية من خلال تكليف الأكاديمية نجلاء بودن تأليف الحكومة، في سابقة لم تحدث في أي بلد عربي، وهي ترأست حكومة من 25 وزيراً اختصاصياً أولويتها مكافحة الفساد.
والمسألة أبعد من اختصار قصة تونس في عنوان "قيس ونجلاء". ففي القصة ثلاثة فصول كبيرة: فصل الضيق بالحكم الفردي الأبوي حتى من رئيس تنويري صنع ثورة اجتماعية هو الحبيب بورقيبة. وفصل الثورة الشعبية على الحكم السلطوي للرئيس زين العابدين بن علي. وفصل الفشل في إدارة السلطة بالتحالف بين حزب علماني هو "نداء تونس" وحزب ديني هو حركة "النهضة" أيام الرئيس الباجي قايد السبسي بعد الثورة.
ذلك أن جوهر المشكلة السياسية في تونس هو العجز عن معالجة مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية والإصرار على ممارسة الفساد. وما يعانيه البلد اليوم ليس أزمة في الثورة، وإن تحدث سعيد عن "حركة ثورية تصحيحية" للانفجار الثوري الذي انطلق من سيدي بو زيد، ولوح بإطلاق "صواريخ دستورية".
فالثورة صارت نظاماً يمارسه الثوار وانتهى الأمر. وما يحتاج إلى حل ليس أزمة الديمقراطية بل أزمة التلاعب بالديمقراطية. فالديمقراطية مكرسة، وهي نهج حياة، لا مجرد صراعات وتحالفات وانتخابات نيابية. وليس هناك تصور واضح لما قيل إن سعيد يؤمن به، وهو "ديمقراطية المجالس". لكن، ما يتحرك في الواقع هو شيء لم يتبلور تماماً. فما انتظره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في لبنان جاء أكثر منه في تونس. ماكرون الذي زار بيروت بعد الانفجار الرهيب في المرفأ التقى أمراء الطوائف المتحكمين بالسلطة وطلب منهم "استراحة محارب" والسماح بتأليف حكومة اختصاصيين مستقلين لإجراء إصلاحات وإخراج لبنان من هاوية الأزمات خلال مدة محددة. وهم وافقوه ثم خدعوه وانقلبوا على ما وافقوا عليه، وأصروا على إبقاء السلطة في يدهم، ولو عبر ممثلين غير فاقعين ضمن محاصصة مكشوفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما قيس سعيد، فإنه يقوم بتجربة لا سابق لها: إخراج الأحزاب والتيارات السياسية الحالية من لعبة السلطة التي يمسك هو بها مع معاونين من المجتمع المدني، تمهيداً لتعديل الدستور وإعادة تكوين النظام ثم إجراء انتخابات نيابية لا دور فيها للسياسيين الفاسدين ولا لتجار الدين، في إشارة إلى حركة "النهضة" الإخوانية ورئيسها ورئيس المجلس النيابي راشد الغنوشي. وهو ليس مستعجلاً، لكن مشاكل الشعب وهمومه تحتاج إلى معالجات وحلول عاجلة. ومهما يكن التأييد الشعبي كبيراً للرئيس وما يقوم به، فإن تجميد الحياة السياسية مسألة خطرة وصعبة في بلد شديد الحيوية السياسية. حتى الأحزاب والتيارات التي تقف وراءه، فإنها لا تتحمل غياب الحياة البرلمانية طويلاً، ولا تقبل أن يحدث كل شيء بقرارات رئاسية. وليس خارج المألوف أن يقول زعيم حزب "العمال" اليساري، حمة الهمامي، إن سعيد "لا يملك مشروعاً لإنقاذ تونس، وهو يحن للمنظومة التي ينتمي إليها، ولا فرق بينه وبين النهضة والائتلاف الحاكم في أمور السيادة الوطنية والعلاقات الدولية". حتى الاتحاد العام التونسي للشغل الداعم له، فإنه لم يكتم القول إنه "يرفض اعتماد عشرية القتل والفشل ذريعة للمقايضة بين الحرية واحتكار السلطة، واحتكار رئيس الجمهورية تعديل الدستور وقانون الانتخاب". وأبسط ما تطالب به الرابطة التونسية لحقوق الإنسان هو إنشاء "هيئة لمراقبة قرارات سعيد" في غياب المحكمة الدستورية.
والمعادلة دقيقة: العودة إلى الوراء وما قبل قرارات سعيد مستحيلة ومؤذية، والسير إلى الأمام بسرعة صعب على طريق جديد يتم شقه من دون خريطة طريق واضحة. والشعب الذي قام بثورة من أجل "الخبز والحرية والكرامة" سيثور من جديد إذا خسر الحرية والكرامة ولم يجد الخبز على مائدة العائلة.