كلما شاء أحد الشعراء أو الروائيين في العالم نقد الأكاديمية السويدية في خياراتها والحطّ من ذائقتها الأدبية، يستعين ببضعة أسماء حازت الجائزة وسقطت في النسيان التام بل جرى تناسيها وإهمالها، وأول اسم يرد هنا هو الشاعر الفرنسي سوللي برودوم الذي كان أول من نال هذه الجائزة سنة انطلاقها عام 1901. وتليه أسماء أخرى مثل الكاتب الألماني بول هيز (1911) أو الفنلندي فرانس إميل سيللانبا (1939) وسواهما.
وفي أجواء نوبل الراهنة التي يشهد خلالها المعترك الأدبي العالمي والعربي سجالاً حول فوز الروائي التنزاني اليمني الأصل عبد الرزاق غورنا الذي كان بمثابة مفاجأة كبيرة، لا بد من التذكر أن نوبل تحتفي هذا العام بالذكرى المئة والعشرين لتأسيسها وهي الذكرى ذاتها لفوز الشاعر الفرنسي سوللي برودوم الذي بات منسياً، بأول جائزة تمنحها الأكاديمية السويدية. وقد يكون فوز هذا الشاعر الذي بات يتجاهله أهل الأدب في فرنسا منذ عقود ويسخر منه قراء الشعر الجديد، لعنة حلت عليه وجعلته بعد عشرة أعوام من فوزه، عرضة للنقد والتندّر والهزء، لا سيما مع صعود الحركات الشعرية الطليعية في فرنسا. وهذا قدر نادراً ما واجهه شاعر أو روائي بلغ قمة "المجد" النوبلي، فانقلب المجد عليه ورماه إلى الحضيض.
لا مبالغة في مثل هذا الكلام بتاتاً ما دام أهم معجم شعري فرنسي هو "معجم الشعر من بودلير حتى أيامنا" الصادر عن دار راقية هي "المنشورات الجامعية الفرنسية" يصفه في مستهل الكلام عنه بـ"الشاعر شبه الرسمي الذي يُعدّ اليوم أنموذج الشاعر الرديء".
خسارة تولستوي
ناهيك عن المعاجم الأخرى المهمة التي لا تتوانى عن التقليل من أهميته، مانحة إياه أقل حيز في متونها للتعريف به وبأعماله. فـ"المعجم الدولي للأدب" المهم كمرجع عالمي (دار لاروس) لم يمنحه سوى تعريف مختصر يوازي ما أعطى مثلاً إلى شاعر نهضوي عربي هو أحمد شوقي. ولعل ما زاد من التحامل عليه أن الأكاديمية فضّلته على الروائي الروسي تولستوي (1828-1910 ) الذي كان اسمه مدرجاً في لائحة المرشحين الأوائل المتنافسين على الجائزة الأولى. وربما يكفي هذا الاختيار غير المبرر بتاتاً، خصوصاً أن تولستوي لم ينل الجائزة من بعد، ليفتح على سوللي برودوم حملات من التجريح والهجاء في العالم. طبعاً هذا قدر لم يكُن ليرضى به الشاعر الفرنسي "الرسمي" الذي احتفلت به الدولة الفرنسية حينذاك، خصوصاً أنه كان انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ولقي هذا الانتخاب المفاجئ رفضاً هائلاً من الشعراء والروائيين والنقاد والمثقفين عموماً.
لو لم يفُز سوللي برودوم بجائزة نوبل، ما كان ليحظى بالشهرة ولو المتضائلة، كان مصيره ليكون مصير شعراء كثر سبقوه أو عاصروه، ما عادوا يُذكرون سوى في كتب التاريخ الأدبي. حتى في الكتب الأدبية التي تدرّس في المدارس والثانويات لا يرد اسمه عل خلاف الشعراء الكلاسيكيين من أمثال بيار دو رونسار (القرن السادس عشر) أو فرانسوا فيّون (القرن الخامس عشر) وسواهم ممن درسناهم (حتى في لبنان) ضمن برامج الصفوف الفرنسية. عاش سوللي برودوم في الزمن المخضرم بين المدرسة الشعرية التي أنشأها شارل بودلير (1821-1861) وأبدع في ترسيخ أبعادها الرمزية وجمالياتها وحداثتها، والمدارس البديعة والخلاقة الأخرى التي نشأت مع بول فرلين (1844-1896) ورامبو (1854- 1891) وستيفان مالارميه (1842-1898) وسواهم، لكنه بدا غريباً تمام الغربة عن الأجواء الساحرة التي جددت الشعر الفرنسي، وشرّعت أبواب الشعر الجديد والحديث عالمياً، ومكث في هامش ضئيل، كشاعر محافظ وتقليدي و"متخلف" عن ركب الثورات الشعرية المتتالية.
"جمهور البلهاء"
الديوان الأول الذي أصدره برودوم عام 1865 بعنوان "مقطعات شعرية وقصائد" مثّل بداية انطلاقه، وقد حيّاه الناقد الكلاسيكي الكبير في عصره سانت بوف الذي بالكاد انتبه إلى بودلير، كما حيّاه الكاتب أناتول فرانس والشعراء المحافظون. وضم الديوان قصيدته الشهيرة بل الأشهر "الإناء المحطم" التي يرمز عنوانها ببساطة إلى القلب المحطم بأسى الحب. ويقول في مطلعها: "الإناء الذي تذوي فيه زهرة الفرفحين/ تصدّع بضربة من مروحة / عندما لمسته الضربة / لم تندّ عنه ضوضاء". هذه القصيدة التي نجحت في وقتها وردّدها البعض، تحدث بول فيرلين عن "الخيبة الشعرية" التي تمثلها ووصف الذين أحبوها بـ"جمهور البلهاء". وما لبثت هذه القصيدة أن أصبحت في الأعوام اللاحقة، مهزأة لدى القراء الجدد فيتلونها قصد السخرية منها ومن عاطفيتها المائعة.
بعد هذا الديوان "العاطفي"، أصدر برودوم دواوين أخرى تفيض شجى وجوى ومنها "العزلات" و"المحن"، ثم انطلق نحو أفق جديد تبرز فيه النزعة الشكلانية وانفتح قليلاً على الحركة البرناسية التي كان من روّادها لوكونت دو ليل مع اهتمام بالمواضيع العلمية والفلسفية. ترجم نشيد "عن الطبيعة" للشاعر والفيلسوف اللاتيني لوكريس الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. وبرزت نزعته الفلسفية التقليدية في ديوانيه الصادرين بين 1878 و1888 وهما "العدالة" و"السعادة". لكن الناقد الفرنسي إدغار بيش يشير إلى أن علاقته بالفلسفة اقتصرت على ما يسمّيه "النظم الفلسفي" أي كتابة مواضيع فلسفية وفق النظام الكلاسيكي. ويشير إلى أن نزعة تشاؤمية تبدّت في هذا الشعر ولكن لا يمكن مقارنتها البتة بتشاؤمية الشاعر الإيطالي الكبير جياكومو ليوباردي. وإضافة إلى قصائده الشخصية والعاطفية، كتب قصائد مناسبات عظّم فيها الأمجاد الوطنية والدولية وبعض المؤسسات التربوية والاجتماعية.
غريب عن الساحة
ويركز نقاد الشاعر على تجاهله التيار الرمزي الذي ساد المعترك الشعري في أيامه وعدم تاثره به وعدم تفاعله مع أطروحاته المهمة وأساليبه البديعة التي أحدثت تحوّلاً رئيساً في مسار الشعر الفرنسي. ويوصف شعره بالكلاسيكي "المأزوم"، البائد المواضيع، والركيك لغة وبلاغة وديباجة والرتيب في بناه الإيقاعية التقليدية. ويضرب الناقد إدغار بيش مثلاً على تواضع هذا الشعر في هذه الأبيات: "يعلم المرء جيداً ودوماً أسباب عذابه/ لكنه يبحث أحياناً عن أسباب حبوره/ أستيقظُ أحياناً وروحي صافية تماماً/ تحت وطأة سحر غريب لا أقدر على الإمساك به".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد هذين الديوانين، انتقل سوللي برودوم إلى الكتابة في حقل الفلسفة والجماليات، فأصدر كتابين صارا في حكم المنسيين وهما: "تعابير الفنون الجميلة" و"تأملات في فن النظم الشعري". عام 1881، انتُخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية. وعندما حاز نوبل، توقفت الأكاديمية في بيان مقتضب عند مثاليته، مادحة "تكوينه الشعري الذي يعطي دليلاً على المثالية السامية والكمال الفني ويمثل مزيجاً نادراً من صفات القلب والفكر". عقب فوزه، أسس جائزة شعرية تمنحها "مؤسسة أهل الادب" وأنشأ "ملتقى الشعراء الفرنسيين" والاثنان لم يبقَ لهما أثر. وعندما انطلقت قضية الجنرال دريفوس كان في طليعة المدافعين عنه. في أعوامه الأخيرة، انسحب إلى حياة العزلة بعدما أُصيب بحال من الشلل وعمل على إنجاز كتابه "الدين الحق بحسب باسكال" (1905). توفي في 6 سبتمبر (أيلول) ودُفن في المقبرة الباريسية الشهيرة "بير لا شيز".
قد يكون مستغرباً جداً أن يكون الفرنسيون هم أول من انتقد فوز شاعرهم سوللي برودوم بجائزة نوبل الأدبية الأولى، بل لعلهم بالغوا في نقده، هم الذين يعتزّون بوصف فرنسا، بلاد الشعر وبلاد بودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه وبول فاليري وأبولينير وأندريه بروتون والسوريالية والحركات الحديثة التي غزت العالم. تناساه الفرنسيون ولم يمنحوه اهتماماً ولم يعلّموه في المدارس والجامعات. لكن الجمهورية "الثالثة" احتفت به في حينه واحتفل به شعراء ونقاد وكتبوا عنه وعن شعره.