انقضت الدورة الـ 14 من المهرجان القومي للمسرح المصري حاملة العديد من الدلالات، أهمها وهي متكررة في أغلب دورات المهرجان، أن المسرح والفن عموماً ابن التجديد والمغامرة والإنصات الى صوت العصر، فقد ظهرت تجارب جديدة يقدمها الشباب والهواة أكثر اتساقاً مع لحظتها الراهنة واستجابة للمتغيرات حولها، وهم يتفوقون من خلالها على المحترفين ويحصدون أغلب الجوائز، في ما يمثل جرس إنذار للكبار الذين لم يستوعب أغلبهم أن مياهاً كثيرة جرت في الأنهار، وأن ما كان صالحاً بالأمس لم يعد مثيراً للدهشة اليوم.
ربما تكون أهم مشكلة يعانيها بعض كبار المسرحيين في مصر هي تصوراتهم المبالغ فيها عن أنفسهم، ورفضهم أي ملاحظة نقدية حول أعمالهم، بل إن أحد النقاد إذا تجرأ ووجه ملاحظة ولو عابرة إلى عرض مسرحي لمخرج معروف، تحل قطيعة بين المخرج والناقد.
المسرحيون المخضرمون في مصر ينظرون إلى النقد باعتباره "موضوعاً إنشائياً" لا ينبغي به تحليل عناصر العرض وبيان مدى فاعلية هذا العنصر أو ذاك، ودوره في التخديم مع غيره من العناصر على صورة العرض ككل، فمهمة الناقد في نظرهم هي تدبيج مقالات تلخص العرض وتشيد بصنّاعه وتطلق عبارات من عينة "كان العرض رائعاً والتمثيل بديعاً والإخراج عظيماً والديكور موظفاً بشكل مثالي"، وغير ذلك من أحكام القيمة المجانية التي لا تستند سوى إلى "الهوى الشخصي" أو تستند في الغالب إلى الكسل النقدي.
الجمهور الجديد
مثل هذه الكتابات هو ما يرضي غرور الكبار ويجعلهم سادرين في غيهم غير عابئين بتطوير تجاربهم لتلامس لحظتها الراهنة، والحاصل أن أغلب هؤلاء الذين لا يقبلون سوى الإشادة على طول الخط يكررون أنفسهم بشكل عجيب، وتكون النتيجة عند وضعهم على المحك والدخول في منافسة مع غيرهم من المسرحيين الجدد أن تتضح الفروق الكبيرة بينهم وبين أولئك الشباب، وهي الفروق التي يحدثها اطلاع الشباب على تجارب المسرح حول العالم والسعي الدائم إلى اكتساب خبرات جديدة، والانفتاح على الآخر والأهم الاستجابة لوعي الجمهورالجديد.
في الغالب فإن أهم مشكلات المسرح المصري أو بمعنى أدق مشكلات صنّاعه الكبار تكمن في فكرة الاستناد إلى الماضي وعدم الإنصات بشكل جيد لـ " صوت العصر"، فحتى الآن مازال بعض المسرحيين القدامى يتحدثون عن مسرح الستينيات باعتباره النموذج الذي يجب أن يحتذى به، وهم لا يشاهدون المسرح أصلاً ويتعمدون إحداث قطيعة مع الأجيال الجديدة، ويكتفون بذواتهم ويطلقون أحكامهم اليقينية التي لا تستند إلى أي منطق، ولذلك فإنهم يظلون في أغلبهم إن شئنا الدقة، محلك سر، لا يقدمون أي جديد سوى اجترار الماضي والتباهي بما قدموه منذ عشرات السنين. هو كان جيداً ومدهشاً في حينه نعم، لكنه لم يعد كذلك الآن في ظل المتغيرات الرهيبة التي طرأت وتطرأ كل لحظة، سواء على مستوى التقنيات أو على مستوى طبيعة الجمهور نفسه وحساسيته المختلفة والقضايا التي تؤرقه، أو غيرها من المعطيات الجديدة التي تتطلب استيعاباً ومن ثم استجابة إليها.
حيوية الشباب
وجاءت جوائز المهرجان القومي للمسرح المصري لتؤكد أن الشباب هم الأكثر حيوية وقدرة على تطوير تجاربهم، فلا أحد من الكبار حصل على جائزة في هذا المهرجان الذي شارك فيه 33 عرضاً لجهات الإنتاج الرسيمة والخاصة والمستقلة. وتجدر الإشارة إلى أن أغلب العناصر التي حصدت جوائز المهرجان جرى تناولها هنا في "اندبندنت عربية"، وبيان مدى تميزها وأهميتها والجديد الذي قدمته.
وعلى الرغم من وجود أكثر من مصمم ديكور من أصحاب الخبرة والموهبة، إلا أن وليد جابر استطاع انتزاع جائزة الديكور عن عرض "قاع" الذي حصل أيضاً على جائزة الإضاءة للمصمم إبراهيم الفرن، ربما للجوء الاثنين إلى حلول غير تقليدية، وهو ما سبقت الإشارة إليه هنا في معرض الكتابة عن العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن مفارقات لجنة التحكيم أيضاً منح الكاتبة صفاء البيلي جائزة أفضل مؤلف صاعد عن نص عرض "جنة هنا"، وهي كاتبة مخضرمة لها عشرات النصوص المسرحية، وتنتمي إلى الجيل نفسه الفائز بالجائزة الأولى في النص المسرحي لبكري عبدالحميد، مما يشير إلى اختلاط المعايير أو ربما إلى محاولة إرضاء الأطراف كافة.
نعم الفائزان يستحقان الجائزة، ولكن ما المعايير الصارمة التي تحدد أي الكاتبين ينتمي إلى الكبار؟ وأيهما ينتمي إلى الصاعدين؟وعلى الرغم من أن الممثلة القديرة عايدة فهمي لعبت واحداً من أفضل أدوارها فى مونودراما" فريدة"، فقد تجاوزتها جائزة أفضل ممثلة التي ذهبت إ لى هالة سرور عن دورها في عرض "جنة هنا"، وربما رأت لجنة التحكيم أن تتيح الفرصة لممثلة شابة باعتبار أن عايدة فهمي سبق أن حصلت في دورة المهرجان الماضية على الجائزة نفسها، وهي مسألة عليها خلاف بخاصة أن لائحة المهرجان لاتمنع فوز ممثل أو كاتب أو مخرج بجائزة مرتين أو حتى 10 مرات متتالية.
العرض المسرحي "دوغز" الذي قدمه مسرح الشباب للمخرج كمال عطية جاء في المركز الثاني بعد حصوله على جائزة الاستعراضات من تصميم ضياء شفيق، والموسيقى من تأليف محمد حسني، والأشعار لمحمود جمال الحديني، وهو مؤلف النص أيضاً.
تعديل اللائحة
الدورة المنقضية من المهرجان هي الـ 14، وعلى الرغم من ذلك فإن لائحة الجوائز تحتاج إلى كثير من التعديلات بخاصة في ما يتعلق بتحديد من الصاعد ومن المخضرم، وكان أن تم وضع كلمة الصاعد عندما اعترض المحترفون على وضعهم في مسابقة واحدة مع الهواة، واقترحوا تنظيم مسابقتين إحداهما للهواة والأخرى للمحترفين، ربما هرباً من المقارنة، وهو مالم يحدث وتم الاكتفاء بفكرة الصاعد والمخضرم، لكن أغلب دورات المهرجان وضعت المحترفين في حرج شديد عندما تفوق عليهم الهواة أو الشباب الذين يبدأون أولى خطواتهم، وإن كانت المشكلة أن الكبار والمحترفين لايستوعبون الدرس، واكتفوا بما أنجزوه سابقاً باعتباره كفيلاً بصعودهم على منصات التتويج التي لم تعد تستقبل سوى الشباب الأكثر حيوية وإنصاتاً إلى صوت العصر، والأهم من ذلك كله الأكثر رغبة في اكتساب خبرات جديدة وتجاوز ما أنجزوه، باعتبار أن ولع المبدع بتجربة ناجحة أنجزها، ووقوعه في أسرها هو أقصر الطرق إلى إغلاق القوس.