السلاح وصندوق الاقتراع عالمان مختلفان. وقدر العراق أن يلتقيا في مشقة تجربته الديمقراطية الصعبة. فـ"الحشد الشعبي" المرتبط بإيران يتصرف على أساس أنه يمثل "الشرعية الإلهية" و"شرعية السلاح"، ولا يحتاج إلى "الشرعية الشعبية" إلا كديكور على طريقة النظام في طهران. وحامل السلاح لا يؤمن أصلاً بالديمقراطية. ولا يشترك في الانتخابات إلا مضطراً. وإذا شارك، فإنه لا يحتكم إلى الصندوق بل يريد أن يحكمه ويلعب من خارج أصول اللعبة. يعترف بنتائج الانتخابات إذا جرى طبخها وتزويرها لمصلحته، كما حدث في أربعة انتخابات نيابية سابقة في العراق بعد الغزو الأميركي الذي وظفه النظام الإيراني في مشروعه الإمبراطوري. ويرفض الاعتراف بالنتائج حين يخسر كما في الانتخابات الخامسة الأخيرة التي شهد المراقبون الدوليون والمحليون على نزاهتها.
"منتفضو أكتوبر" قاطعوا الانتخابات
لا بل إن زعيم "تحالف الفتح" الخاسر هادي العامري ورفاقه، قادة فصائل الحشد المرتبطة أيديولوجياً وتنظيمياً وتسليحياً بإيران، هددوا بالنزول إلى الشارع واستخدام العنف وإحراق مراكز التيار الصدري الرابح. وقائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الجنرال إسماعيل قاآني سارع إلى بغداد لضمان أن يحتفظ الخاسرون بالنفوذ والمواقع في السلطة. فاللاعب الأكبر في العراق هو "فيلق القدس" تحت مظلة المرشد الأعلى علي خامنئي. و"العدو" في العراق هو المجتمع المدني والوطنية العراقية اللذان يدعمهما المرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني ويقاتل بسلاحهما رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس الجمهورية برهم صالح. وفي رأي الخبير الفرنسي في قضايا الإسلام السياسي والإرهاب أوليفييه روا، فإن "الإيرانيين لا يريدون عودة عراق قوي ولو حكمه الشيعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والجيل الجديد، لا سيما في المكون الشيعي، هو الذي قام بانتفاضة شعبية ضد الأحزاب الحاكمة و"الاحتلالين الإيراني والأميركي". وفصائل من "الحشد الشعبي" هي التي مارست العنف ضد شباب الانتفاضة واغتالت الناشطين. وليس أمراً قليل الدلالات أن "منتفضي أكتوبر" الذين طالبوا بانتخابات مبكرة، قاطعوها ترشيحاً واقتراعاً، باستثتاء بعض الذين خاضوها كمستقلين وفازوا في كربلاء والناصرية. كان منطق المقاطعة التي قامت بها أحزاب وتيارات علمانية مثل الحزب الشيوعي وتيار إياد علاوي، هو أن التغيير المطلوب ممنوع والتزوير بالمرصاد. وهو منطق قابل للنقاش، لا سيما بعد ظهور النتائج التي أحدثت نوعاً من "الزلزال السياسي" في رأي المراقبين. فالأحزاب التقليدية كانت حريصة على خفض نسبة المشاركة في الانتخابات، بدل جذب الناخبين كالعادة، لأن ذلك يضمن لها الربح. وكانت تتمنى نسبة أقل من 41 في المئة. ومع أن استخدام كلمة "لو" في قراءة الأحداث بعد وقوعها ليس مرغوباً به، فإن من الصعب تجنب سؤال بسيط: ماذا كان يحدث لو انخرط أهل "الثورة" جميعاً في الانتخابات؟ أليس وقوع زلزال سياسي أكبر؟
العراق ربح معركة
مهما يكن، فإن مصطفى الكاظمي ربح رهانه على إجراء الانتخابات بنزاهة من دون أن يترشح شخصياً على عكس أسلافه جميعاً، بصرف النظر عمن ربح ومن خسر. والعراق ربح معركة في حرب طويلة هي حرب الدولة الوطنية. لكن التجارب تؤكد ما عبّر دانيال هنتر، رئيس "حركة الشمس الشارقة" في أميركا بالقول: "الانتخابات ليست كل شيء. ليست النهاية بل جزء من العملية. والإصلاحات المهمة في أميركا لم تحدث بالانتخابات بل بقوة الحركات الاجتماعية". وليس من المفارقات أن يبدو وكلاء إيران في العراق كأنهم نسخة من دونالد ترمب بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. ترمب الخاسر رفض الاعتراف بالخسارة وأصرّ على كذبة اسمها "سرقة" الانتخابات، ودفع أنصاره إلى الهجوم على مبنى الكونغرس لمنعه من أن يعلن فوز جو بايدن، بعدما فشل في الضغط على حكام الولايات الجمهوريين لتغيير نتائج الانتخابات لمصلحته. و"الحشد الشعبي" يهدد بما هو أفظع عبر الاستقواء بالنفوذ الإيراني وقوة السلاح. ويتصور أن حملته لإجبار القوات الأميركية المقاتلة على الانسحاب تضمن النفوذ الإيراني والسلطة له. لكن ما يمنع تمدد النفوذ الإيراني في العراق ليس الوجود الأميركي بل الإرادة الوطنية العراقية.
والتحدي هو نقل العراق من دولة فاشلة منهوبة ثروتها ومنكوب شعبها إلى دولة ناجحة في إدارة شؤون الناس كما في تعزيز الموقع الجيوسياسي للبلد ودوره العربي.