ظلت الوثيقة الدستورية الموقعة عام 2019 بين المجلس العسكري المنحل وقوى إعلان "الحرية والتغيير"، التي تمثل المرجعية الحاكمة لكل الفترة الانتقالية، والضابطة والمنظمة للشراكة بين المكونين المدني والعسكري، والأسس والأدوار والأنصبة والآجال الخاصة بتشكيل كل مؤسسات الانتقال، لكنها في خضم الشرخ العميق الذي تشهده الشراكة الانتقالية حالياً، ظلت الوثيقة هي الحاضر دائماً في ثنايا الاتهامات المتبادلة من المكونين بخرق الوثيقة الدستورية، لتصبح ضمن أدوات الصراع السياسي القانونية، من دون أن تكون جزءاً من حلول عجزت في أن تسهم في تقديم مخرج لها.
استفهامات عدة أثيرت حول مصير الوثيقة الدستورية وهل فقدت قدسيتها وحجيتها، بحيث لم تعد سوى مجرد مبرر للشراكة القائمة وحائطها الأخير، فباتت كالحاضر الغائب في المشهد السياسي السوداني الملتهب شديد الاحتقان، ولم يعد حالها بأفضل من حال الشراكة نفسها، لكثرة ما تعرضت له من اتهامات وانتقادات بالخروقات والثقوب العيوب.
أخطر الاتهامات
أخطر ما أثير حول الوثيقة الدستورية من اتهامات هو ما جاء كشهادة شاهد من أهلها، وهو ما ذكره نائب رئيس "حزب الأمة"، القيادي في "الحرية والتغيير"، إبراهيم الأمين، أن ثمة تلاعباً جرى في الوثيقة بواسطة أفراد من المكونين المدني والعسكري، من دون علم الوفدين المتفاوضين، محملاً هؤلاء الأشخاص من دون أن يسميهم المسؤولية عن ذلك، ما دفعه إلى تقديم استقالته كممثل لنداء السودان في لجنة التفاوض ضمن مكونات "الحرية والتغيير".
لكن الأمين، الذي كان مشاركاً في المفاوضات التي أنجزت الوثيقة مع المجلس العسكري السابق عن قوى "الحرية والتغيير"، نفى لوسائل إعلام محلية أن يكون لحزبه أية علاقة بهذا التلاعب، رافضاً الإدلاء بأي تفاصيل حول تصريحاته التي أثارت جدلاً واسعاً على الساحتين السياسية والقانوية.
واعتبر أن التعديل الذي تم في الوثيقة عقب توقيع اتفاقية سلام جوبا، بإضافة المادة (80) التي تشكل بموجبها مجلس شركاء الفترة الانتقالية، كان السبب في إرباك الحركة السياسية والتضارب في المسار السياسي بالبلاد.
وفي تعليقه على ما أثاره الأمين من اتهامات بالتلاعب في الوثيقة، قال المحامي نبيل أديب، عضو اللجنة القانونية لـ"الحرية والتغيير"، "إن التزوير في الوثيقة صعب. لكنه غير مستحيل"، مطالباً نائب رئيس "حزب الأمة" بتدوين بلاغ بشأن واقعة التلاعب المزعومة، مشيراً إلى أن من أكبر الأخطاء بشأن التفاوض بخصوص الوثيقة، أنه كان يتم من دون محضر مشترك.
أبرز التعديلات
ونشرت وزارة العدل في الجريدة الرسمية لجمهورية السودان تحت عنوان "الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (تعديل) لسنة 2020" العدد 1908، بتاريخ 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، مشتملة على التعديلات الجديدة.
وشملت تلك التعديلات استيعاب شركاء السلام في مجلسي السيادة والوزراء بإضافات تتعلق بتشكيل مجلس السيادة الانتقالي، الذي يتألف وفقاً للتعديلات الجديدة من 14 عضواً، يسمي المجلس العسكري 5 منهم، على أن تقوم قوى إعلان "الحرية والتغيير" باختيار 5 أعضاء مدنيين، ويسميان بالاشتراك عضواً مدنياً واحداً، بينما تختار أطراف العملية السلمية في اتفاق جوبا للسلام 3 أعضاء، ويجوز للجهات التي قامت باختيار الممثلين حق تعيينهم واستبدالهم.
أما بخصوص مجلس الوزراء، فقد أصبح يتألف بموجب التعديلات من رئيس للمجلس، وعدد من الوزراء من كفاءات وطنية يتم اختيارهم بالتشاور، ويعينهم رئيس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان "الحرية والتغيير"، وأطراف العملية السلمية في اتفاق جوبا.
وبموجب التعديلات تختار أطراف السلام 25 في المئة من الوزراء، ويعتمد مجلس السيادة جميع أعضاء مجلس الوزراء، ومن بينها حقيبتا الدفاع والداخلية، اللذان يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة.
وشملت التعديلات كذلك مدة الفترة الانتقالية المحددة في الوثيقة الأصل بـ39 شهراً، لتكون بدايتها من تاريخ التوقيع على اتفاق السلام في جوبا، في 3 أكتوبر2020، بعد مضي أكثر من عام على بدء العمل بالوثيقة.
أضافت التعديلات إنشاء مجلس لشركاء الفترة الانتقالية، تُمثَّل فيه أطراف الوثيقة الأصلية، ورئيس مجلس الوزراء، إلى جانب أطراف اتفاق السلام، وذلك بغرض حل الخلافات والتباينات في وجهات النظر بين الأطراف المختلفة، خدمة لمصالح البلاد العليا وضمان نجاح الفترة الانتقالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خروقات وتجاوزات
وفي هذا السياق، يؤكد التوم هجو، رئيس مسار الوسط في اتفاق سلام جوبا، أن الوثيقة الدستورية تعرضت إلى كثير من الخروقات نتيجة عدم الالتزام بكثير من بنودها، لكن على رغم ذلك فإن ما حدث لا يلغيها نهائياً، لأنها الآن هي التي تشكل الأرضية التي تجمع الناس بالحد الأدنى.
ودعا هجو إلى الاعتراف بواقع أن الوثيقة الدستورية إلى جانب كونها أُعدت على عجل، حدثت فيها أيضاً خروقات عدة، وطاولتها اتهامات بالتلاعب في محتواها صدرت في الآونة الأخيرة من قبل قياداتها أنفسهم، ما يجعل إخضاعها للتنقيح والتطوير أمراً مهماً وملحاً، لأنها لم تعد تصلح للمضي قدماً بها بشكلها الراهن، مشيراً إلى ضرورة استعجال تشكيل المجلس التشريعي وفق التمثيل المتفق عليه، والمعبر عن توافق الشعب السوداني ليتطلع بمهمة تنقيح الوثيقة وتطويرها، لتواكب الواقع السياسي الراهن والقبول بكل مطلوبات ذلك التطوير بعد أن كشفت ممارسة تطبيقها خلال الفترة السابقة ثغرات عدة لا بد من إغلاقها، كطبيعة سائر الدساتير العالمية وعلى رأسها الدستور الأميركي القائم منذ عام 1900، الذي تعرض لتعديلات تطويرية عدة، لافتاً إلى أن التعديلات التي تمت في الوثيقة عام 2020، كانت فقط بإضافة اتفاق السلام وتضمينه بها.
ووصف رئيس مسار الوسط، الاتهامات الصادرة عن القيادي رئيس "حزب الأمة القومي" بوصفه مشاركاً في المفاوضات التي أفضت إلى التوقيع على الوثيقة مع المجلس العسكري الانتقالي، بأنها خطيرة، تمس قضية الشعب والانتفاضة التي أزهقت فيها أرواح عدة، وأريقت من أجلها دماء زكية، مشدداً على ضرورة ألا يمر هذا الحديث من دون التحري والتقصي فيه، إما أن يثبت الاتهام ويحاسب الذين عبثوا بالوثيقة، أو أن يحاسب من أطلق تلك الاتهامات حال ثبوت عدم صحتها.
النصوص المعطوبة
وعلى الصعيد ذاته، طالب المحامي محمود الشيخ، عضو اللجنة السياسية للمحامين الديمقرطيين، بضرورة تحلي المكونين العسكري والمدني بالإرادة السياسية اللازمة للتوافق والاعتراف صراحة بأن الوثيقة الدستورية فيها نصوص معطوبة، تجعل الأرضية غير صالحة لاتخاذ قرارات تصب في مصلحة الشعب السوداني والعملية السياسية في البلاد، ولا بد من جلوس الأطراف المعنية لإصلاح هذه الوثيقة عبر الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين اللذين يمثلان السلطة التشريعية المؤقتة.
وكشف الشيخ أن الاتهامات بالتلاعب في الوثيقة ليست وليدة اليوم، بل ظهرت منذ وجود الوسيط الأفريقي محمد ولد لباد في السودان وأيضاً بعد مغادرته، وعلى وجه التحديد عند بروز المشكلة المرتبطة بتعيين رئيس القضاء في ذلك الوقت.
ولفت عضو اللجنة السياسية للمحامين الديمقراطيين، إلى أهمية التوافق السياسي بين المكونين لإدخال تعديلات مطلوبة على الوثيقة الدستورية، على الرغم من أن ذلك يبدو صعباً في ظل الوضع الراهن المشحون بالجفوة والتشاحن السياسي، في سياق معركة سياسية تستخدم فيها أدوات قانونية كثيرة من ضمنها الوثيقة الدستورية نفسها، إذ لا يزال كلا المكونين يتهم الآخر بخرق الوثيقة، ما يعد في حد ذاته أكبر دليل على أن بها بعض النصوص التي تحتمل أكثر من تفسير، ما يؤكد عطبها وضرورة استبدالها.
ويضيف الشيخ "هذه الوثيقة أصبحت الآن خارج سياق أي حل للأزمة الراهنة، ولا تستطيع أن تقدم حلولاً للتخفيف منها، لأن الحلول مكمنها في الإرادة السياسية التي صنعت الوثيقة نفسها مهما كلف الطرفين من تنازلات كبيرة من أجل سلامة البلاد المهددة في أصل وجودها هذه المرة".
خلل البدايات
وفي المنحى نفسه، يؤكد المحامي كمال الجزولي، عضو اللجنة الثلاثية لمراجعة وصياغة الوثيقة الدستورية، أن هناك انتهاكات عدة حدثت للوثيقة، وقد كان واضحاً للجنة منذ البداية أن هناك خللاً فيها، لكن اللجنة لم تكن لديها السلطة التي تخولها الدخول في أي تعديل للمضمون، مضيفاً "عندما سألت شخصياً عن نوع ومدى المراجعة المطلوبة وما إذا كانت تشمل المضمون، قيل لنا إن المطلوب فقط مراجعة الشكل والصياغة لأن المضمون قد تم التوصل إليه بعد صعوبة شديدة، لذلك التزمت اللجنة فقط بما طُلب منها، ثم قامت بعد ذلك بشرح جهدها للمجلس المركزي لـ"الحرية والتغيير".
ويعتقد الجزولي أن الوثيقة افتقدت منذ البداية إلى المرونة اللازمة، كما لم تتضمن آلية للمراجعة أو التعديل، لكن وعلى الرغم من ذلك، من الممكن إجراء تعديلات عليها إذا توافرت الإرادة السياسية لدى طرفي السلطة الانتقالية.
وأشار عضو اللجنة الثلاثية إلى أن أساس الأزمات المتلاحقة للشراكة الانتقالية ظل ذاته، وهو التجاوز والخروقات المتعمدة من المكون العسكري للوثيقة الدستورية، والتي من أبرزها اختطافه لملف السلام الذي أفرز بدوره أزمة مسار الشرق الحالية، بسبب قصور ما تم التوافق عليه، لأن ملف السلام اختصاص مدني بنص الوثيقة الدستورية، يرتبط بتشكيل مفوضية السلام التي يكونها ويشرف عليها رئيس مجلس الوزراء، الذي كان بعيداً من تفاصيل مفاوضات السلام في جوبا.
المطالبة بالالتزام
وكان المجلس المركزي لـ"الحرية والتغيير"، قد شدد في آخر اجتماعاته في سياق تطورات أزمة الشراكة، على ضرورة نقل رئاسة "مجلس السيادة" الانتقالي إلى المدنيين، والالتزام الصارم بالوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا للسلام في السودان، وإكمال السلام، بما في ذلك دورية رئاسة المجلس السيادي، والتي يجب أن تنتقل للمدنيين، وفق ما نصّت عليه الوثيقة الدستورية. وأكد المجلس تمسكه بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية.
وطالب بأن تكون الحكومة المدنية مسؤولة مباشرة عن قوات الشرطة وجهاز الاستخبارات العامة، مجدداً الالتزام بإصلاح القطاعين الأمني والعسكري، وتنفيذ الترتيبات الأمنية الواردة في اتفاقية السلام، واعتماد خطة تؤدي إلى بناء قوات مسلحة واحدة، وانضمام كل القوى خارج القوات المسلحة إليها.
ومنذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، اندلعت خلافات متصاعدة بين المكونين المدني والعسكري، ألقت بظلالها الكثيفة على الشراكة في السلطة الانتقالية بينهما، والتي تأسست بموجب الوثيقة الدستورية الموقعة بين الطرفين في أغسطس (آب) 2019، بعد الإطاحة بنظام البشير بانتفاضة شعبية عارمة، لكن الوثيقة ظلت مثار اتهامات متبادلة بينهما بخرق بنودها.