"بقبول الاختلافات، سيكون العالم عالماً أفضل للأجيال القادمة، لنعمل معاً على تعزيز الحوار والتسامح ومكافحة معاداة السامية"، بهذه العبارات افتتح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ قبل أيام "متحف التسامح" في مدينة القدس، وسط تصفيقٍ وترحيبٍ من ضيوف وشخصيات سياسية ودبلوماسية عالمية، والذين أبدوا انبهارهم بالمتحف الذي يحكي "قصة الشعب اليهودي" من خلال عروضٍ افتراضية متداخلة مع الشاشات والمنحوتات الزجاجية.
"متحف التسامح"
انبهار من نوع آخر أصاب مئات العوائل المقدسية، وهي تشاهد حفل الافتتاح، فحيث يقف هرتزوغ وضيوفه، كانت قبور أجدادهم المسلمين منذ مئات السنين، التي نُبشت ورُميت في مكان مجهول. فـ "متحف التسامح" الإسرائيلي أقيم فوق أرضٍ اقتُطِعَت من المقبرة الإسلاميّة التاريخيّة "مأمن الله"، حيث كانت تقدر مساحتها بـ 200 ألف متر. وسيطرت الحكومة الإسرائيلية على نحو 60 في المئة من مساحتها في أوائل الستينيات، وأقامت عليها ما تسمى بـ "حديقة الاستقلال"، ثم واصلت مشاريعها بتمديد خطوط المياه والصرف الصحي والكهرباء والشوارع والمقاهي والفنادق ومواقف السيارات على أرض المقبرة، ولم يتبقَ منها الآن سوى 10 آلاف متر فقط.
منظمة التعاون الإسلامي دانت بدورها افتتاح ما يسمى "متحف التسامح"، معتبرة في بيان "أن ذلك يأتي في سياق سياسات الاحتلال الإسرائيلي ضد مدينة القدس المحتلة وأهلها ومقدساتها وهويتها الإسلامية ومعالمها الحضارية، ويشكل استفزازاً لمشاعر المسلمين بشكل عام، والفلسطينيين على وجه الخصوص."
الخبير في شؤون العمارة بالقدس جمال عمرو شدد على ضرورة أن يتم تحويل ملف هذه المقبرة إلى محكمة الجنايات الدولية فوراً، لأنها جزء من الأملاك الوقفية في القدس، وبموجب الاتفاقيات بين إسرائيل والأردن، تخضع هذه الاملاك لسلطة المملكة الأردنية، وقال إن وجود المقبرة في القسم الغربي من القدس لا يعني أنها تابعة للسيطرة الإسرائيلية، فالأملاك الوقفية لا تخضع لسيطرة الدول وفقاً للقانون الدولي، "شاهدنا بأم أعيننا جرافات إسرائيلية وهي تزيل جماجم وعظام الموتى في مقبرة مأمن الله، وقبل أيام تم الاعتداء على المقبرة اليوسفية الملاصقة لسور المسجد الأقصى الشرقي، ونبش قبور وأضرحة الشهداء من قِبل الجرافات الإسرائيلية، ما تسبّب باندلاع مواجهات مع عناصر قوات الاحتلال في المكان. بعدها بيومين فقط تم إحراق جزء من مقبرة باب الرحمة، وانتفض الشبان المقدسيون برشق الحجارة على الجنود وعمال بلدية القدس، رفضاً لمخطط تحويلها لحديقة توراتية. كل ذلك يدلل على وجود خطة ممنهجة ومنظمة استيطانية صهيونية سياسية، لافتعال حرب مقابر، كما أن حالة الغضب الشديد التي تسود القدس، تجعل الوضع مرشحاً للانفجار في أي وقت."
جمعية "عيمق شافيه" التي تقوم عليها مجموعة من الآثاريين الإسرائيليين، ذكرت في تقرير سابق ان تأسيس "متحف التسامح" أدّى إلى كشف نحو 100 جثمان في الطبقات الأرضيّة المختلفة للمقبرة (تقدّر بين ثلاث وأربع طبقات)، دُفِنَ أصحاب تلك الجثامين خلال حقب إسلاميّة متفاوتة امتدّت على مدى نحو 10 قرون، كما اعترف مدير سلطة الآثار الإسرائيلية السابق شوقا دورفمان بتدمير مئات القبور الإسلامية في مقبرة "مأمن الله" في القدس لصالح المتحف.
تعزيز الثقة
بلدية القدس ردت بدورها أن الأراضي التي يجري تجريفها في المقبرة الإسلامية، هي ضمن أراضي "أملاك الغائبين" التي يديرها "حارس أملاك الغائبين"، في حين يندرج مشروع إقامة حدائق وطنية إسرائيلية في المكان، ضمن الخطة الحكومية الخاصة (3790)، بسد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وتنمية مرافق الاقتصاد في شرق القدس، ومن بينها "خلق فرص عمل لأكثر من 10 آلاف شخص من سكان شرق المدينة وزيادة وتعزيز الثقة."
رئيس بلدية القدس موشيه ليون دعا في وقت سابق جميع الأطراف إلى "تهدئة النفوس والتصرف بمسؤولية"، مضيفاً، "لن نسمح للمتطرفين من أي من الجانبين بإضعاف مدينتنا في الاتجاه المعاكس."
"الاندماج"
الخطة الاسرائيلية التطويرية (3790)، بحسب بلدية القدس وهيئة تنمية القدس الإسرائيلية، ستعمل على تعزيز قدرة سكان القدس الشرقية على "الاندماج" في المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، في إطار المسعى الهادف لتقليص الفجوات الاجتماعية الاقتصادية وتعزيز التنمية الاقتصادية في القدس الشرقية للأعوام 2018 - 2023، في مجالات التعليم والاقتصاد والعمل والنقل والصحة، وتحسين نوعية الحياة، والتخطيط وتسجيل العقارات، وتؤكّد الخطة، بحسب القائمين عليها، أنها تأتي استمراراً للقوانين والقرارات الحكومية الممتدة من قانون أساس "القدس عاصمة إسرائيل" والذي ينصّ على إعطاء القدس أولوية خاصة في الأنشطة الاقتصادية والأنشطة التنموية، وكذلك قرار الحكومة الإسرائيلية رقم (1775) لعام 2014 الهادف لتعزيز قدرة سكان القدس الشرقية على الاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي، والقرار رقم (2684) لعام 2017 الساعي لتعزيز المرونة الاقتصادية والاجتماعية "للعاصمة" بأكملها.
قبور وهمية
وفي الوقت الذي تؤكد فيه بلدية القدس ملكيتها أجزاء من "المقبرة اليوسفية"، (إحدى أشهر المقابر الإسلامية في القدس، ويعود إنشاؤها إلى عهد الدولة الأيوبية)، والتي تبلغ مساحتها 4000 متر منذ عام 1967، وتقع ضمن مشروع الحوض المقدس (كيلومتر واحد حول سور القدس)، وضرورة تحويلها إلى حديقة وطنية توراتية، تشدد مؤسسات مقدسية حقوقية وإسلامية أنها تمتلك وثائق تبيّن أن أمانة القدس الأردنية قامت بتسليم الأرض لدائرة الأوقاف الإسلامية، التي بدورها وضعتها كأرض وقف إسلامي لغرض توسيع "مقبرة اليوسفية"، وعليها قبور عدة، إضافة إلى قبر "صرح الشهيد" والنصب التذكاري لشهداء حرب عام 1967.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الباحث الفلسطيني، وخبير الخرائط والاستيطان في القدس خليل التفكجي، يقول، "هذه الاعتداءات المتكررة على المقابر الإسلامية (مأمن الله، باب الرحمة، اليوسفية) وغيرها، تندرج ضمن مشروع 2020 (كيلومتر واحد حول سور القدس)، إلى جانب مخطط "زاموش" الاستيطاني الذي يطال السور الشرقي للقدس والمسجد الأقصى، ويهدف بالأساس إلى وقف تمدد مقبرتي باب الرحمة واليوسفية ووقف الدفن فيهما لاستعمال أراضيهما في المشاريع التهويدية."
وقفية إسلامية
في حين أشارت لجنة رعاية المقابر الإسلامية بالقدس، إلى أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على زرع آلاف القبور الوهمية لليهود في المرتفعات الغربية لمنطقة سلوان جنوب المسجد الأقصى، والتي تمتد من جبل الزيتون شرق المسجد الأقصى، إلى بلدة سلوان ووادي الربابة جنوب غربي المسجد، حيث تشير التقديرات إلى وجود آلاف القبور الوهمية هناك.
رئيس لجنة رعاية المقابر الإسلامية بالقدس مصطفى أبو زهرة قال بدوره، "لا تعتبر سياسة زرع القبور الوهمية في القدس المحتلة جديدة على الاحتلال الإسرائيلي، لكن الجديد في الأمر أنها تجرى بوتيرة سريعة وغير مسبوقة خلال الآونة الاخيرة، حيث يتم زرع القبور من خلال إحداث حفر بعمق 35 سنتيمتراً وقطرها 40 سنتيمتراً يثبت بها قضبان حديدية، ثم يُصبّ الإسمنت ويوضع حجر فوقه يحمل نجمة داوود، ويُرشّ حول القبر تراب قديم لتظهر وكأنها قبور منذ مئات السنين. تقام هذه القبور على أراض تتبع وقفية إسلامية تبلغ مساحتها مليار و680 مليون متر (حوالى 6.25 في المئة من مساحة فلسطين).
"يونسكو"
عام 2016، اتهم قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" إسرائيل "بزرع قبور يهودية وهمية في مقابر المسلمين"، والاستمرار في تحويل كثير من الآثار الإسلامية والبيزنطية، إلى ما يسمى بالحمامات اليهودية الطقوسية أو إلى أماكن صلاة يهودية. وتمت المصادقة على القرار آنذاك بتصويت 33 بلداً من أصل الأعضاء البالغ عددهم 58، وهو ما أغضب الحكومة الإسرائيلية التي ردت حينها بالقول إن "مسرح العبث في اليونسكو يتواصل"، في حين شدد عضو الكنيست يولي أدلشتين على أن هذا القرار "يحمل رسالة للمحرضين ولمن يعيدون كتابة التاريخ الذين يعملون بلا كلل بدافع الكراهية".
وأكد وزير شؤون القدس والتراث زئيف إلكين أن "الاستمرار في البناء هو تعبير عن حقنا التاريخي في المدينة، وهو أفضل رد على قرار اليونسكو لصالح الفلسطينيين"، مشيداً، في الوقت ذاته، "بدور اللجنة العالمية لحماية جبل الزيتون" في ولاية نيويورك الأميركية التي تولي أهمية خاصة "لمقبرة جبل الزيتون" من خلال ترميم القبور اليهودية المهدومة.
قبور عشوائية
بحسب لجنة المقابر الإسلامية، تبلغ مساحة المقابر الإسلامية الثلاث في القدس (باب الرحمة، اليوسفية، المجاهدين) مجتمعة 700 ألف متر، تخدم نحو 370 ألف مقدسي، وفي المقابل، تبلغ مساحة مقبرة يهودية واحدة ثلاثة أضعاف المقبرة الإسلامية، وهو ما دفع بعشرات المقدسين لدفن الموتى في قبور عشوائية داخلها كدفن الجثامين فوق بعضها إذا مرت ثماني سنوات على الدفن السابق.
ورصدت لجان وزارية إسرائيلية عدة تحت مسمى "إنقاذ مقبرة جبل الزيتون" أكثر من 100 مليون دولار، بهدف ترميم المقبرة اليهودية واستصلاحها، وإقامة مركز معلومات لها، وتركيب عشرات كاميرات المراقبة داخلها لحمايتها.
ويقول أبو زهرة، "المسؤولية عن الأوقاف الإسلامية تقع على عاتق الحكومة الأردنية التي يجب عليها التدخل الفوري لوضع حد لما يجري بحق المقابر الإسلامية التاريخية في القدس. إذا كانت هناك أراض فارغة فمن الأولى أن يدفن فيها الفلسطينيون موتاهم، بخاصة في ظل اكتظاظ المقابر الإسلامية والتضييق الشديد عليها وتجريفها من قبل الاحتلال".
إدانات وشجب
بدورها، طالبت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بـ "تحرك عاجل لوقف جرائم الاحتلال ضد المقابر والمقدسات في القدس"، ودانت الخارجية، في بيان، "بأشد العبارات عمليات التجريف التي قامت بها سلطات الاحتلال لمقبرة اليوسفية بالقدس المحتلة"، مضيفة أن "هذه الاعتداءات تندرج في إطار مخططات الاحتلال الرامية إلى تهويد المدينة المقدسة ومحيطها، من خلال فرض تغييرات جوهرية على واقعها، وطمس هويتها الحضارية العربية المسيحية والإسلامية".
وأكد مستشار ديوان الرئاسة الفلسطينية لشؤون القدس أحمد الرويضي أن "كل القرارات التي صدرت من الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي بشأن القدس والمسجد الأقصى، بقيت حبراً على ورق ولم تنفذ واقعياً."
التوتر الشديد
يذكر أن مدينة القدس تشهد حالة من التوتر الشديد، بخاصة بعد أن قضت محكمة الصلح الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، بحق اليهود في أداء صلاة "صامتة" داخل الأقصى، وكان قد سبق القرار القضائي، أن قام مستوطنون خلال فترة الأعياد اليهودية أخيراً، بالدخول إلى الأقصى ورفع العلم الإسرائيلي مرات عدة داخل ساحاته والنفخ في البوق "الشوفار"، وتحريض "منظمات جبل المعبد" على دائرة الأوقاف الإسلامية، والدعوة لطردها من الأقصى واعتبارها منظمة إرهابية.