معظمنا يعرف اللبنانية إيتل عدنان شاعرة وروائية مهمة لها بالفرنسية والإنجليزية أكثر من عشرين ديواناً، ورواية تجريبية بعنوان "ستّ ماري روز" (1977). لكن عدنان هي أيضاً فنانة تشكيلية بالأهمية نفسها عُرضت لوحاتها ورسومها في أبرز المتاحف والمؤسسات الفنية عبر العالم. هذا الوجه يفسر قيمته التشكيلية المعرض الذي ينظّمه لها حالياً متحف "غوغنهايم" في نيويورك تحت عنوان ""إيتل عدنان، قياس جديد للضوء"، ويشكّل بأهميته ومضمونه تكريساً مستحقاً لمسيرتها الإبداعية.
قيمة هذا المعرض، الذي يحتل الطابقين الأولين من الصرح الحلزوني للمتحف، تكمن في تغطيته عمل عدنان التشكيلي منذ منتصف القرن الماضي، وتضمّنه بالتالي أعمالاً من مختلف الوسائط التي اعتمدتها في فنها. تكمن أيضاً في مقابلة منظّميه الأعمال الحاضرة فيه بأعمال للفنان فاسيلي كاندينسكي تحتل الطابقين العلويين من المتحف. مقابلة مثيرة وغير مجانية لأن عدنان درست وتأمّلت في فن هذا العملاق طوال حياتها، ووصفت رسمه التجريدي بـ "فولكلور أعيد عيشه على مستوى كوني".
بدايات عدنان في فن الرسم تعود إلى نهاية الخمسينيات، حين كانت تدرّس مادة الفلسفة في كاليفورنيا. حقبة توقفت فيها عن الكتابة باللغة الفرنسية احتجاجاً على استعمار فرنسا للجزائر، وصرّحت بأنها ستبدأ "الرسم باللغة العربية". وبينما اتسمت كتاباتها آنذاك بنقدٍ محكم للحرب والجور الاجتماعي، شكّل رسمها ــ ولا يزال ــ تقطيراً جد شخصي لإيمانها بالإنسان وبجمال العالم. ومن هذا المنطلق نفهم قولها: "يبدو أنني أكتب ما أرى، وأرسم ما أنا عليه".
حدس وإشعاع
طريقة رسم عدنان تتميز بجانب حاسم وحدسي. إذ تجلس خلف مكتبها، تضع اللوحة بشكل مسطّح أمامها وتنطلق في إسقاط الأصباغ عليها مباشرة من الأنابيب بواسطة سكين الرسم لبلوغ تشكيلات ذات إشعاع فوري، هي عبارة عن هندسات بسيطة: مربّع أحمر يرسّخ أشكالاً مجرّدة، دائرة منيرة للشمس، شرائط أفقية توحي بالسماء فوق البحر... وعلى الرغم من قياساتها الصغيرة نسبياً والاقتصاد الشكلي فيها، تتمكن لوحاتها ورسومها من تجسيد تلك الأحاسيس المتأتية من الذاكرة أو الإدراك العابر، التي تقولب حياتنا الداخلية. وتذهب صديقة عدنان، النحاتة اللبنانية سيمون فتال، أبعد من ذلك بقولها إن هذه الأعمال تؤدي "الدور الذي كانت تؤدّيه الأيقونات القديمة للناس المؤمنين. أعمال تفيض بالطاقة، تحمينا مثل طلاسم، وتساعدنا على عيش حياتنا اليومية".
وبينما تتراوح تشكيلات عدنان بين تجريد وتصوير، أحياناً داخل العمل الواحد، حافظت طوال مسيرتها على قناعة مرسّخة بعمق داخلها في قدرة الرسم غير الموضوعي على التعبير عن نسيج حياتنا الداخلية. وفي هذا السياق، دافعت عن مفهوم الألوان باعتبارها ذوات تخلق معنى وتسيّر انفعالات خاصة، واصفة إياها بـ "بكائنات ميتافيزيقية". فبالنسبة إليها، اللون والشكل المجرّد، مثل الشعر والموسيقى، يشكّلان وسيلة لاستحضار تجارب، أبعد من اللغة أو المنطق: "ألحّ على كلمة "مجرّد" أو ما نسمّيه الرسم غير التصويري، الذي هو مثل الموسيقى. أعشق بلوغ عمق في المعنى لا علاقة له بالكلمات، حتى حين أستخدم كلمات. نسعى إلى الغرف من المصدر الذي تتأتى منه الكلمات. ثمة عالم غير تصويري هو أيضاً عالمنا".
الطبيعة الغامرة
وغالباً ما تستحضر لوحات عدنان روعة الطبيعة الغامرة. لوحات يستشفّ المتأمل فيها موضوعين رئيسيين: مشهد جبل "تامالبي" الذي كانت نوافذ منزل الفنانة في كاليفورنيا تطّل عليه، وتستحضره بأشكال مختلفة، متحولاً مع الضوء والزمن، ومتأرجحاً باستمرار بين تصوير وتجريد: "صار هذا الجبل أفضل صديق لي. كان أكثر من مجرّد جبل جميل، إذ دخل كياني، وجودياً، وملأ حياتي". وفعلاً، بالنسبة إلى عدنان، تجربة مشهد ما لا تقتصر على جانبها البصري، ففي كتابها "رحلة إلى جبل تامالبي" (1986)، وصفت الحميمية الروحية والعلاقة الفلسفية بين الفن وعالم الطبيعة. أما اللوحات والرسوم التي رصدتها للجبل المذكور فتجسّد عمق التزامها بموضوعه، كما تعكس تقارباً عميقاً مع عمل بول سيزان، وتحديداً مع السلسلة الشهيرة التي خصّصها لـ جبل "سانت فيكتوار"، وقالت الفنانة فيها: "لم تعد "سانت فيكتوار" جبلاً. صارت مطلقاً. لوحة".
الموضوع الثاني المتواتر داخل عمل عدنان هو تعانق الشمس والبحر. صورة تصدي داخلها كأثر من طفولتها التي أمضتها على ساحل بيروت. وعموماً، شكّل البحر موضوع افتتان ثابت لها، ففي كتابها "عن مدن ونساء، رسائل إلى فوّاز" (1993)، تصفه بـ "جوهر الأنوثة": "أن نقترب من البحر، أن ننظر إليه حتى لا يعود أي شيء مرئياً، وفي النهاية، وبظرف أقل من ثانية، أن نتوارى داخل نظرتنا إلى تلك الكتلة المتحركة التي لا بداية لها ولا نهاية". بالتالي، يقودنا التأمل في البحر، وفقاً إليها، إلى معانقة ذاتنا الحميمة. ومن هذا المنطلق، تعبّر الآفاق البحرية المستحضَرة في لوحاتها بحركية شكلية متقشّفة، عن عظمة تناقض قياسات هذه اللوحات الصغيرة.
ومنذ بداياتها في الرسم، تنجز عدنان لوحاتها خلال جلسة واحدة، وتعمل عليها من دون رسوم إعدادية مسبقة. تشكيلاتها الأولى تجريدية كلياً ومشيّدة انطلاقاً من مربّعات من الألوان الحيوية تتجمّع ضمن علاقة في ما بينها، أو تبدو معلّقة كنماذج شكلية أحادية اللون، أو تنتظم حول مربّع محوري. وحولها، صرّحت الفنانة بأن "الأعمال الأولى هي مثل النوتات الأولى لمدوّنة موسيقية، بمعنى أنها تتضمن بذور كل ما سيأتي بعدها". وعموماً، غالباً ما تحضر داخل هذه اللوحات كرى بألوان حية توحي بأجرام سماوية من كون مجهول. ولا عجب في ذلك، فالحلم بالإفلات من الروابط الأرضية موضوع آخر متواتر في عملها، منذ السباق على غزو الفضاء خلال الستينيات، يقابله كابوس هجران أرضنا الأم، مهد البشرية، وتجاهُل التهديدات التي تتربص بها.
تأمل عميق
ومع أن عدنان عصامية، تعلمّت الرسم من تلقاء ذاتها، ضمن تأمّل ثابت وعميق في الطبيعة، إلا أنها طوّرت ممارستها هذه ضمن حوار مع تاريخ الفن الحديث، ومع عدد محدود من وجوهه الغربية والشرقية تحديداً، مثل بول كلي الذي تشاركه الفنانة تلك الحساسية الغنائية المستشعرة في لوحاته صغيرة الحجم، والرسامين اللبنانيين سلوى روضة شقير وبول غيراغوسيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يكتمل أي عرض لعمل عدنان التشكيلي من دون التوقف عند الاختبارات التي بدأتها في الستينيات داخل كتب مطوية على شكل أكورديون (leporellos)، وأثمرت أعمالاً هجينة تحضر داخلها قصائد لشعراء مقرّبين منها، بخطّ يدها، مرفقة برسوم تزيينة لها بالحبر أو الألوان المائية أو الغواش. أعمال توفيقية في طبيعتها لاختلاط داخلها تقاليد فن التخطيط بالحبر المتجذّرة في آسيا الشرقية، حساسية فن التخطيط العربي، وأسلوب الفنانة المميّز في ابتكار رموز بصرية مجرّدة قد تبدو أحياناً كحروف أبجدية، كما في سلسلة "علامات ـ مفاتيح" التي أنجزتها منتصف العقد الماضي، لكنها في الواقع علامات تتعذّر قراءتها وتبثّ المعنى المضمر داخلها بواسطة التجريد.
وفي نهاية الستينيات، وبعد دراستها فن النسج مع الناسجة التجريبية في كاليفورنيا، أيدا غراي، انطلقت عدنان في ترجمة الأشكال البصرية الحاضرة في لوحاتها وكتبها المطوية الفنية إلى أقمشة جدارية وسجاد. أعمال تستند على نماذج شكلية مبتكَرة خصيصاً لهذا الوسيط، وتستثمر الفنانة في إنجازها نسيج القماش المعتمَد وألوان خيوط الصوف الفريدة، لتمثيل عناصر مختلفة من الطبيعة (جبال، غابات، بحيرات...).