(فيلم "الألم والمجد" (Pain and Glory) ، إخراج: بيدرو ألمودوفار، بطولة: أنطونيو بانديراس، بينيلوبي كروز، أسير إتكسينديا، التصنيف الرقابي: 15 عاماً،المدة: 113 دقيقة)
فيلم المخرج الاسباني ألمودوفار الذي عُرض اخيراً ضمن مسابقة مهرجان كان السينمائي، مشحون بالأفكار الشخصية وكأنه مصنوع من أجل إرضاء الذات من النوع الذي يجب أن يبقى حصراً على مخرجين يتمتعون بسيرة مهنية متألقة ( لا يُسمح بتقديمها إلا لمخرج يتمتع برصيد مهني متألق).
يدور الفيلم حول مخرج سينمائي منهمك في معاينة ماضيه والتأمل في حياته وعلاقاته. وإذا تخيل المرء نسخة إسبانية من فيلم للمخرج السويدي إنغمار برغمان أو فيلم لوودي آلان عن الحب والخسارة، لاستطاع أن يقترب من جوهر هذا الفيلم. إنه قصة مثيرة للعواطف والذكريات يقدّمها أنطونيو بانديراس بأداء بارع وإحساس مرهف.
يبدأ الفيلم بمشهد لبطله، المخرج السينمائي سلفادور مالو (بانديراس)، وهوغارق بلا حراك تحت الماء في حوض سباحة. يبدو الرجل على مشارف الشيخوخة ويعاني بوضوح من الوسواس المرضي. يشعر مالو بألم في أسفل الظهر كما أن لديه تهيؤات بسماع طينين في أذنيه علاوة على أمراض أخرى لا حصر لها. وإضافة إلى ذلك فهو مصاب باكتئاب شديد. ويقول في أحد المشاهد" بدون تصوير، لا معنى لحياتي"، لكن يبدو أنه تخلى عن مهنته السينمائية.
لفيلم "الألم والمجد" بنية تقوم على تناوب المراحل الزمنية وتقاطعها. هكذا تتخلل الشريط لحظات يظهر فيها سلفادور كصبي صغير، يترعرع في كنف أم جميلة (بينيلوبي كروز) ترعاه بشغف. وتشتمل تلك المشاهد على لقطات لسلفادور وهو يغذّ الخطى نحو الشيخوخة. وقد كتب قصة سيرته الذاتية التي تحمل عنوان "إدمان" التي تتناول علاقة غرامية عاشها منذ زمن بعيد مع حبيب أدمن الهيرويين، وصار ممثلا اسمه ألبرتو كريسبو (أسير إتكسيندي) لعب بطولة أشهر أفلام سلفادور، وهو الآن يريد ان يؤدي "إدمان" على خشبة المسرح.
يتعاطى ألبيرتو نفسه كميات هائلة من الهيرويين، ويدخنه على رقائق من القصدير. ثم يبدأ سلفادور بتناول المخدر أيضاً للتخفيف من أوجاعه في بادئ الأمر. ومع أن الرجلين لم يكونا على تواصل لأكثر من 30 سنة، لكن سلفادور يوافق أن يؤدي ألبيرتو مسرحيته. ويكاد الدور الذي يلعبه على الخشبة يمثل شخصية سلفادور المرسومة بتصرف. ولا يمكن للجمهور إلا أن يرى في سيلفادور الأنا الثانية لصناعه أمودوفار ذاته. وبالإضافة إلى هذه القصص المتداخلة واحدة في قلب الأخرى في الفيلم، فإن الحبيب المدمن على المخدرات من أيام صبا سلفادور، يظهر فجأة وبدون أي مقدمات (جاء على ما يبدو، إلى مدريد من أجل تحصيل ميراث).
هكذا تتشابك حياة سلفادور المهنية والخاصة إلى حد بعيد في هذا الفيلم. وعموماً، تستقي أفلامه بعض معالمها من سيرته الذاتية بشكل مباشر. هكذا تقول له والدته في إحدى المراحل" لا تتقمص هيئة راوي القصص تلك"، عندما أدركت أنه يعتبر كل ما يحدث له مادة من حقه أن يدخلها في نسيج كتاباته المتخيلة. لقد كان ناجحاً جداً في حياته المهنية، الامر الذي مكّنه من عيش تجارب جديدة حوّلها، مجدداً، إلى مادة لأعماله. و يتناول الفيلم علاقته بوالدته كامرأة مُسنّة في مراحل حياتها الأخيرة ، وذلك في أحد أجزائه الأخيرة والمؤثر للغاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشعر المرء بثقل الوقت هنا - ففي تلك اللحظات يتمنى المشاهد لو أن سيلفادور يستطيع تسريع شريط ذكرياته إلى الأمام بدلاً من التركيز على تلك اللحظات بهذا التفصيل الشهواني. تتوزع لقطات استرجاع الماضي (فلاشباك) بطريقة عشوائية في الفيلم، كما أن هناك مصادفات كثيرة. وتحدث بعض الأفعال في "الواقع" فيما يجري بعضها في الأحلام، كما يبدو. عو لى كل حال، يعرف ألمودوفار تماماً كيف يحوّل أبسط اللحظات في حياة شخصية سلفادور المتغيرة إلى مشاهد مؤثرة وشاعرية.
ثمة مشهد رائع في بداية الفيلم ، يتزامن فيه جلوس الصبي على الشاطئ مع ترديد والدته ونساء أخريات أغنيات شعبية وهن يغسلن الملابس على ضفة النهر. إنه طفل نفيس استيقظ شغفه بالكتب والأفلام باكراً.و يتذكر أن رائحة "البول والنسيم الصيفي العليل" كانت تفوح في سينما الهواء الطلق أيام طفولته.
كان من السهولة بمكان أن يظهر سلفادور كشخصية مبالغ فيها ومعقدة للغاية. لكن على العكس، لعب بانديراس الدور على نحو مليء الدعابة والحنان وبإحساس ساخر. وهناك بعض الكوميديا في تشاؤمه الشديد. يطغى الجمال على تصوير الفيلم، وترافقه موسيقى تصويرية مؤثرة جداً كان حضور الفلوت فيها بارزاً.
سينكب جمهور ألمودافور على تحليل فيلم "الألم والمجد" باحثين عن أدلة تثبت مدى شخصنة هذا العمل. لكن سيتمكن آخرون ببساطة من الاسترخاء والاستمتاع بالأسلوب الرقيق والشاعري الذي قدّم فيه المخرج الاسباني القدير بطله المخرج السينمائي وهو يغوص في رحلة تحمله إلى أعماق الماضي.
© The Independent