حين أعلن عن إنشاء المفوضية العليا للانتخابات في العراق، ركز قانون تشريعها على أنها مستقلة ومحايدة وتخضع للرقابة البرلمانية حصراً. وبهدف تقويتها وجعلها سلطة معنوية، تضمن بيان إعلانها أنها تملك القوة المطلقة للقانون وسلطة إعلان وتطبيق وتنفيذ الأنظمة والقواعد والإجراءات المتعلقة بالاستفتاءات والانتخابات في جمهورية العراق.
خمسة انتخابات صعبة
نفذت المفوضية خمس جولات انتخابية (2006 و2010 و2014 و2018 و2021) تحت قانون نافذ بتشكيلها، صدر عام 2004، وصادقت عليه الجمعية الوطنية المنتخبة. حددت مهمتها بتنظيم العملية الانتخابية كل أربع سنوات، لكن دورة العام الحالي، في 10 أكتوبر (تشرين الأول)، جرت مبكرة بعد احتجاجات أسقطت حكومة عادل عبدالمهدي، وخلفت 800 قتيل، وأكثر من 30 ألف جريح، في سابقة خطيرة هزت عرش السلطة، بعد عهد الديمقراطية التي أشاعها مجتمع ما بعد 2003، الذي قلب النظام الجمهوري إلى برلماني، كانت حصيلته مجالس نيابية توزع الأدوار والحصص الحكومية (توافقياً) على المكونات، عرفياً، ومن دون سند دستوري، ووفق أعداد السكان والمكونات.
وقد أنيطت سلطة الانتخابات بالمفوضية المستقلة حصراً، التي أنشئت لها مكاتب في المحافظات العراقية الـ18، بالإضافة إلى 16 مكتباً في البلدان الرئيسة التي يعيش فيها العراقيون. يديرها مجلس مفوضين، يتألف من تسعة أعضاء، يترأسهم رئيس منتخب منهم.
نمط جديد للحكم
وجراء ذلك، ألغى النظام العراقي الجديد عهداً طويلاً من الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد منذ تأسيس الدولة عام 1921، إبان الحكم الملكي، ومروراً بالنظام الجمهوري عام 1958، وحتى عام 2005، حين أعلن الدستور خلال الاحتلال الأميركي (2003-2011)، على الرغم من الاعتراضات الكثيرة عليه، وعدم وجود إجماع وطني حوله، وصياغته بأغلبية سياسية لاقت معارضة وتسببت بحروب وصدامات كارثية.
شهدت الحياة السياسية الجديدة بعيد الاحتلال، أول اقتراع من أجل انتخاب جمعية وطنية، أو ما يسمى مجلس النواب أو البرلمان المؤقت، انبثقت عنه حكومة انتقالية، للتصويت على الدستور واختيار مؤسسات الحكم الدائمة للبلاد، ثم إجراء أول انتخابات عامة نظمتها المفوضية المستقلة عام 2006.
ظلت المفوضية مستهدفة من قبل القوى السياسية المختلفة، التي سعت إلى توظيفها لمشروعها السياسي وفرض نظام المحاصصة عليها، على الرغم من سعي بعض أعضائها إلى إبقائها كمؤسسة دستورية، مهمتها الرئيسة العمل على إجراء الانتخابات وتنظيم الاستفتاءات، كما حدد قانونها وبتشريع ومصادقة برلمانية.
ظروف عصيبة
لكن هذا الحال لم يستمر طويلاً، لا سيما بعد الانسحاب الأميركي، وظل واقعاً نظرياً نتيجة تدخل الأحزاب والقوى النافذة في عمل المفوضية والتأثير على قراراتها، وتباين ولاءات وإثنيات أعضائها، الذين وقعوا تحت تأثير الواقع العراقي المهدد بالسلاح المنفلت وانتشار المسلحين، الذين أضحى وجودهم فوق السلطة الحكومية والقانون، كما يصفه بعض المراقبين.
استقلال المفوضية الذي أكده قانونها، لا يمكن أن يتحقق واقعياً في ظل ضعف الدولة وانقسامها وتهديد الحكومات المتعاقبة ممن يوصفون بـ"قوى اللادولة"، التي يشاع بأنها وراء قلب نتائج الانتخابات والحيلولة دون إعلان المفوضية لما أنتجه التصويت من نتائج صادمة للكثير من القوى العراقية النافذة، لا سيما القوى المسلحة التي تهدد دوماً المؤسسات الدستورية باقتحام المنطقة الخضراء ومهاجمة الأطراف غير الموالية. وقد تكرر ذلك مرات، من خلال استعراضات عسكرية من دون علم الحكومة أو موافقتها، فسرت شعبياً مقولة "أخذ بوش الحكومة"، والتلويح بالقدرة على إسقاطها بقوة السلاح، الذي تمتلكه قوى غير نظامية بعضها ضمن مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة الذي هو رئيس الحكومة، لكنه يعمل ضمن ولاءات أخرى.
جلها من القضاة
هناك من يرى أن تكليف تسعة قضاة إدارة المفوضية من دون خبرة مهنية سابقة، بخاصة أنها تتعرض لضغوط لا تعد ولا تحصى، تسبب في وقوعها تحت التلاعب بقرارتها، إضافة إلى إدارتها العملية بولاءات متعددة وزمن قياسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفرزت الانتخابات الأخيرة كثيراً من المؤشرات السلبية. يقول الكاتب السياسي ناجي الغزي لـ"اندبندنت عربية"، إن "الانتخابات المبكرة، على الرغم من أن القائمين عليها من القضاة الجدد، فإن آلية عمل المفوضية وأغلب موظفيها لديهم تجربة كبيرة في العمل الانتخابي، لا سيما أن القانون الجديد بدوائره المتعددة سمح لها بإحصاء المراكز الانتخابية بطريقة مرنة وبسيطة، سواء عن طريق الأجهزة الإلكترونية (البايومترية) أو العد اليدوي".
ويضيف، "لكن طرح النتائج الأولية بطريقة غير مدروسة ومبعثرة أربك مشهد الانتخابات، ما جعل الشكوك والاتهامات تدور حول المفوضية، بخاصة في ظل التفاوت الكبير الذي برز في نتائج بعض القوى التقليدية والناشئة والشخصيات المستقلة وكتلة التيار الصدري".
ويشير الغزي إلى أن "المفوضية خلقت إشكاليات كبيرة عندما ادعت أن هناك أكثر من 3 آلاف محطة لم تفرز، وإعادتها العد والفرز يدوياً في محطات أخرى. وهذه المعطيات جعلتها محط اتهام الآخرين، بخاصة عندما بدأ موقعها الرسمي بالتوقف وحذف النتائج الأولية. كل هذا التضارب بالمعلومات، جعل المشهد محتدماً ومتشنجاً لدى الأطراف الخاسرة".
ويؤكد الغزي أن "المفوضية جعلت من نفسها طرفاً في هذا النزاع، بسبب حداثة عمل القضاة فيها والصراعات التي لم تحسم بعد".
إعلان مبكر أربك الانتخابات
يرى الدكتور ماجد مجباس، وهو خبير قانوني، أن المفوضية وقعت في تفسير خاطئ للمادة 38 من قانون الانتخابات (رقم تسعة لعام 2020)، التي نصت على "تعتمد المفوضية على أجهزة تسريع النتائج إلكترونياً، وتلتزم بإعلان النتائج خلال 24 ساعة من انتهاء الاقتراع وتجري عملية العد والفرز اليدوي لغرض المطابقة بواقع محطة واحدة لكل مركز انتخابي، وبعدها تتسلم المفوضية الطعون المحتملة".
ويوضح أن "المفوضية وقعت في حرج كبير، وأوقعت معها الشارع العراقي في حرج أكبر، لأن النتائج الأولية التي ذهبت إليها الإرادة التشريعية، هي النتائج المكتملة القابلة للطعن أمام المفوضية، وعلى الأخيرة أن تلتزم الطعون التي تأتي بعد العد والفرز الإلكتروني واليدوي معاً، بينما ما طبقته كان إعلان نتائج وإبقاء أخرى".
ويضيف، "المعروف في أبجديات الديمقراطية أنه من غير الممكن للمرشح الطعن بنتائج لا تزال غير مكتملة ومنقوصة. وفي المنطق القانوني السليم، كيف لمرشح أن يطعن في حين أن بعض المحطات والصناديق والأصوات غير محسوبة؟ فعلى أي أساس سيكون الطعن؟ بعد أن تكتمل الطعون أمام المفوضية، تذهب إلى المحكمة الاتحادية لغرض المصادقة".
كيف تلقى السياسيون النتائج؟
كل تلك الإشكالات التي تسبب بها الإعلان الأولي لنتائج الانتخابات صدمت القوى الخاسرة، التي وجدت نفسها خارج نتائج الترشح لمواقع الدولة. وجعلت الشارع العراقي في هياج غير مسبوق، مطلقاً اللوم على المفوضية التي كانت قد مدحت كثيراً قبيل الانتخابات على الجهود التي تبذلها لإجراء العملية ضمن الأطر الزمنية وتأمين المراكز والمحطات، والدعم الذي تلقته من رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي.
وجدت المفوضية نفسها أمام سيل من أسئلة واعتراضات تشكك في صدقيتها وعملها. وزاد الطين بلة، تراجعها عن الإعلان الأولي وإلغاء عرض النتائج عن موقعها الرسمي، ما اضطر رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان إلى إصدار بيان مشترك غير مسبوق يطالبان فيه الأطراف والقوى السياسية بالتهدئة، مشيرين إلى أن "الاعتراضات على سير العملية الانتخابية مقبولة ضمن السياق القانوني وأن التعامل معها يكون وفق الدستور والقانون، ليكون الفيصل. ونؤكد دعمنا لمفوضية الانتخابات والهيئة القضائية المختصة لمتابعة هذا الملف، مع الحرص على النظر في جميع الشكاوى والطعون المقدمة بمهنية عالية ومسؤولية وحيادية تامة".
يبدو أن القوى السياسية الخاسرة، وجلها من الولائيين، لن تقبل الاستسلام للنتائج المعلنة، وهي مستعدة لقلب الطاولة على المفوضية ومن يدعمها، حتى وإن كانت مؤسسة لها حصانة دستورية. وهذا ما يصرح به العديد من زعمائها ليلاً ونهاراً.