بدت بروكسل يوم الأربعاء وكأنها "تتهيأ للأسوأ" في ما يتعلق باتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، بعدما لمحت المملكة المتحدة إلى أن عرض الاتحاد الأوروبي إلغاء ما يصل إلى نحو 80 في المئة من أعمال التدقيق في البضائع التي تدخل إلى إقليم إيرلندا الشمالية، لم يكن كافياً لحل النزاع المرير على موضوع حدود إيرلندا.
وطالب نائب رئيسة "المفوضية الأوروبية" ماروس سيفكوفيتش العاصمة البريطانية بالتعامل "بجدية وبشكل مكثف" مع المقترحات، داعياً وزير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ديفيد فروست إلى العودة اعتباراً من يوم الجمعة إلى المحادثات المتعلقة بـ"بروتوكول إيرلندا الشمالية" Northern Ireland protocol (يحكم قضايا الجمارك والهجرة على الحدود في الجزيرة ما بين إيرلندا وبريطانيا وإيرلندا الشمالية والاتحاد الأوروبي، لكن منذ بدء تنفيذه أثار خلافات بين لندن وبروكسل لأنه عطل التجارة بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية).
إلا أن الجانب البريطاني رد بأنه في الوقت الذي سينظر فيه اللورد فروست "بجدية وعلى نحوٍ بناء" في حزمة المقترحات الأوروبية، فإن المحادثات التي ستُجرى على مدى الأسابيع المقبلة، لا بد من أن تأخذ في الاعتبار مطالبته بإزالة اختصاص "محكمة العدل الأوروبية" European Court of Justice (ECJ) في ما يتصل بالصفقة.
وأفاد مصدرٌ بريطاني في تصريح لـ"اندبندنت" بأنه "من دون وضع ترتيباتٍ جديدة في شأن الحوكمة، فإن "بروتوكول إيرلندا الشمالية" لن يحوز أبداً الدعم الذي يحتاجه ليستمر تطبيقه". وأكد "أن هذه المسألة جوهرية، وتتطلب معالجةً إذا ما أريد للبروتوكول أن يُنفذ على أساس مستدام".
انطلاقاً من هذا التباين، بدا المشهد في عاصمة الاتحاد الأوروبي مهيئاً لمواجهة عيد الميلاد، مع إشارة مراقبين إلى أنهم لم يعودوا متأكدين مما إذا كانت مبادرة سيفكوفيتش قد أتاحت ما يكفي من "فرصة لإجراء تغييرٍ ما" بالنسبة إلى المفاوض عن الجانب البريطاني ديفيد فروست ورئيس الوزراء بوريس جونسون، كي يتراجعا عن موقفهما المتشدد.
وناشدت شركاتٌ بريطانية رئيس الوزراء جونسون، التراجع عن سياسة حافة الهاوية، منبهةً إلى أن تهديده بتمزيق "بروتوكول إيرلندا الشمالية"، قد يتسبب بفرض تعرفات أوروبية عقابية على المنتجات البريطانية - بما فيها وضع رسم 10 في المئة على صادرات السيارات المنتجة في بريطانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وبالفعل حرصت بروكسل على توضيح أنها مستعدة للرد بالتعرفات في حال أقدمت المملكة المتحدة على اتخاذ الخيار النووي المتمثل في التذرع بالمادة 16 من البروتوكول (تنص على أنه يحق لأي من الجانبين اتخاذ إجراء من جانبٍ واحد في حال تسبب البروتوكول "بصعوباتٍ اقتصادية أو مجتمعية أو بيئية خطيرة يمكن أن تستمر، أو يؤدي إلى تحويل التجارة") لتعليق تنفيذ الصفقة التي تم التفاوض في شأنها، ووافق عليها في عام 2019 كل من رئيس الوزراء البريطاني ومستشاره الرئيسي لملف "بريكست".
لكن على الرغم من ذلك، يبدو أن الاتحاد الأوروبي مستعد للذهاب بعيداً لتجنب انهيار الاتفاق، مع وصف مصادر في بروكسل مقترحات نائب رئيسة المفوضية بأنها عرضٌ افتتاحي "يمهد الطريق" للمحادثات. ففي مؤتمر صحافي طال انتظاره وعُقد في المقر الرئيسي لـ"المفوضية الأوروبية"، طرح سيفكوفيتش ما وصفها بأنها "حزمةٌ قوية من الحلول المبتكرة والعملية" لمعالجة البيروقراطية والنقص اللذين تسببا بإزعاج لإيرلندا الشمالية، منذ بدء التنفيذ الكامل لاتفاق مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي في مطلع عام 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد سيفكوفيتش أنه إضافة إلى تقليص التدقيقات الروتينية الطويلة للبضائع، فإن الاتحاد الأوروبي مستعد للتخلي عن القوانين الجديدة المتعلقة بالأدوية التي يتم نقلها من البر الرئيسي، وكذلك عن حظر منتجات اللحوم المبردة كالنقانق، المخصصة لسوق إيرلندا الشمالية. أما حاويات المنتجات الغذائية فيُكتفى بشهادة طبيبٍ بيطري واحد فقط لها، بدلاً من 100 أو أكثر لتغطية كل منتج تم إدراجه في قائمة الشحنة.
وفي المقابل، يتعين على سلطات المملكة المتحدة بناء مراكز مراقبة حدودية جديدة، وتمكين الاتحاد الأوروبي من الوصول إلى بيانات التجارة في الوقت الفعلي، وذلك للحؤول دون وقوع عمليات تهريب.
وفي محاولة للتخفيف من مخاوف اللورد فروست المتعلقة بـ"محكمة العدل الأوروبية"، أوضح سيفكوفيتش أن المسألة لم تُثر معه إلا مرةً واحدة فقط، وذلك في إطار محادثاتٍ شاملة مع الشركات والأحزاب السياسية في إيرلندا الشمالية. ورأى أنه يمكن، من خلال رد إيجابي من الجانب البريطاني، حل الخلاف قبيل رأس السنة.
لكن نائب رئيسة "المفوضية الأوروبية" أثار احتمال أن يتسبب تعنت المملكة المتحدة في قيام حدود صعبة مع الجمهورية، وقال إنه "من الواضح جداً" أن الإقليم (إيرلندا الشمالية) لن يكون في إمكانه مواصلة الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة من دون إشراف "محكمة العدل الأوروبية".
وكان اللورد فروست قد طالب في كلمةٍ ألقاها في العاصمة البرتغالية لشبونة يوم الثلاثاء الفائت، باستبدالٍ كامل لـ"بروتوكول إيرلندا الشمالية"، محذراً من أن منح سلطات إنفاذ قانونية لقضاة لوكسمبورغ، يعني فرض قانون الاتحاد الأوروبي على مواطني إيرلندا الشمالية من دون موافقة ديموقراطية. وقال "في رأيي أن هذا يجب أن يتغير إذا أردنا بلورة ترتيبات حوكمة يمكن للناس التعايش معها".
مصادر الاتحاد الأوروبي أوضحت أن "حزمة الفرص المعززة" التي قدمها سيفكوفيتش لم تأتِ رداً على كلمة فروست في لشبونة، بل كانت تهدف إلى "حل المشكلات الإجرائية" التي تؤثر في الأفراد والشركات على جانبي الحدود الإيرلندية، مع الحفاظ على السلام والاستقرار في الإقليم اللذين يؤمنهما "اتفاق الجمعة العظيمة".
لكن سيفكوفيتش انتقد بشدة ما سماه إخفاق المملكة المتحدة حتى الآن في الوفاء بمشاركة البيانات والتحقق من الواردات الموعودة في اتفاق عام 2019، قائلاً: "إننا نبدي مرونةً لكن الضوابط المتبقية يجب أن يتم تطبيقها بالشكل الصحيح".
وفي لندن، أعلن ناطق باسم الحكومة البريطانية أن المملكة المتحدة ستنظر في حزمة المقترحات الأوروبية "بجدية وعلى نحوٍ بناء"، وأنها مستعدة "للعمل بجد" على المحادثات.
وفيما حض "اتحاد الصناعات البريطانية" Confederation of British Industry (أكبر اتحاد في قطاع الأعمال في البلاد) كلا الجانبين على "اغتنام هذه الفرصة للعودة إلى طاولة المفاوضات والاتفاق على حلول مستدامة طويلة الأجل"، حذرت "غرف التجارة البريطانية" British Chambers of Commerce الحكومة من السماح لمخاوفها المتعلقة بـ "محكمة العدل الأوروبية" بأن تعرقل التوصل إلى صفقة.
ورأى وليم باين رئيس السياسة التجارية في "غرف التجارة البريطانية" أنه "يتعين على الطرفين أن يتوصلا إلى اتفاقٍ متوازن في وقتٍ قريب، يركز على خفض أعمال التدقيق بالنسبة إلى الشركات بموجب البروتوكول، وليس على النزاعات المتعلقة بالأنظمة القضائية المختلفة التي لم يتطرق إليها مجتمع الأعمال".
جيفري دونالدسون زعيم "الحزب الاتحادي الديمقراطي" Democratic Unionist Party (DUP) (يدعم الوحدة بين إيرلندا الشمالية وبريطانيا) وصف المقترحات التي تقدم بها الاتحاد الأوروبي، بأنها ترقى إلى مستوى "اعترافٍ مرحبٍ به بأن "بروتوكول إيرلندا الشمالية" لم يحقق النجاح، ولا يحظى بموافقة المجتمع المؤيد للوحدة مع المملكة المتحدة في الإقليم".
لكن دونالدسون رأى في المقابل أن حزمة المقترحات "ما زالت غير كافية لأن تشكل أساساً لحل مستدام"، لأنها تتوخى الإبقاء على "البروتوكول الذي ثبت فشله".
أما وزير خارجية إيرلندا سايمون كوفيني فرحب بوعد اللورد ديفيد فروست "العمل جدياً" على المقترحات الأوروبية قائلاً إنها "تمهد الطريق" للخروج من الأزمة.
لويز هاي وزيرة شؤون إيرلندا الشمالية في حكومة الظل "العمالية" قالت إن "من الواضح أنه مع توافر الإرادة السياسية فإنه توجد مساحةٌ مشتركة للتفاهم". ورأت أن "الوقت قد حان الآن للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وممثلي إيرلندا الشمالية، للجلوس حول طاولة والتوصل إلى الاتفاق التي تحتاجها مجتمعاتهم".
لكن فيليب ريكروفت وهو أحد كبار موظفي الحكومة في وزارة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فيليب ريكروفت، قال إن تركيز لندن على موضوع "محكمة العدل الأوروبية" هو أمرٌ "محير"، خصوصاً أن المملكة المتحدة كانت تعرف منذ البداية أن هذه المسألة تشكل خطاً أحمر بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي.
وقال أخيراً لـ"راديو تايمز" إن "السعي إلى إلغاء (البروتوكول) يطرح السؤال عما كانت تفكر فيه المملكة المتحدة عندما وقعت عليه؟ وعن مدى تصميمها فعلاً على التمسك بهذا البروتوكول على المدى البعيد".
© The Independent