على أنقاض "برج الجوهرة" الذي دمرته المقاتلات الإسرائيلية في العملية العسكرية التي بدأت وانتهت في مايو (أيار) الماضي، وصل سعيد برفقة 20 عاملاً، كل واحد منهم يحمل بيده معول هدم الحجارة، وعلى الفور بدأت تعلو أصوات الطرقات، بهذه الطريقة البدائية يحاول فريق العمل هدم طبقات المبنى الذي دُمر مع الحفاظ على هيكله قائماً.
الركام المستخرج من عملية إزالة أنقاض المباني المدمرة، له قصة أخرى في قطاع غزة، حيث يعمل مئات العمال في مهنة "إعادة تدوير المباني" التي تتمثل في تفتيت الخرسانة لاستخراج الحديد منها، وتحويل باقي الردم إلى حجارة صغيرة.
300 ألف طن ردم
هذه العملية فرضت نفسها في غزة، إذ خلفت العملية العسكرية الأخيرة نحو 300 ألف طن من الردم المنتشر في الشوارع، ولكن ليس هذا السبب الوحيد الذي جعل السكان يلجأون إلى امتهانها، بل أيضاً انتشرت مع منع إسرائيل دخول المواد الخام الخاصة بعملية الإعمار، حينها وجدها الفلسطينيون حلاً مناسباً يوفرون من خلاله مواد البناء من طريق إعادة استخدام الطوب من جديد.
وبعد 10 ساعات متواصلة، أنجز سعيد وفريق عمله تفتيت نحو 10 كيلوغرامات من الخرسانة، لكن عمله لم ينته بعد، إذ في انتظاره مهمة أخرى، ويتوجب عليه تحميل الركام على عربة يجرها حيوان لنقله إلى أحد معامل الردم لتحويله هناك إلى حجارة صالحة للاستخدام مرة أخرى.
المال دافع العمل
وعن دافع عمله في هذه المهنة يقول سعيد، "الظروف المعيشية الصعبة في غزة أجبرتني على امتهان ترميم الركام، بخاصة أن لدي التزامات يجب توفيرها لأطفالي الصغار الذين يتنظرون عودتي لشراء احتياجاتهم"، ويعمل سعيد في المهنة المؤقتة، التي تنتهي فور إزالة أطنان الركام، نحو 10 ساعات يومياً، ومقابل مبلغ زهيد يقدر بحوالى 15 دولاراً، ويشير إلى أنه يمارس مهنته هذه من دون أدوات سلامة أو حتى تأمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني، فإن نسبة البطالة بين العمال وصلت إلى 80 في المئة، في وقت تخطى حاجز الفقر بين الأسر 60 في المئة، إضافة لتسجيل نحو 300 ألف خريج جامعي عاطلين من العمل، وهذه الأرقام قياسية وغير مسبوقة.
ويواجه ممتهنو إعادة تدوير المنازل، تحديات كثيرة، أبرزها ضعف الإمكانات وعدم وجود آليات متطورة، لذلك فإنهم مضطرون للعمل بشكل يدوي، ويقول سعيد إنهم حاولوا استيراد آلات متطورة، لكن إسرائيل منعت دخولها القطاع.
مواد غير جيدة
في العادة، يحتاج العمال نحو شهرين لإزالة مبنى واحد مدمر، ويستغرقون هذا الوقت الطويل، لأن إسرائيل تعتمد استخدام صواريخ تفريغ هواء، مبدأ عملها إسقاط المنزل مع المحافظة على شكله، وفق خبراء المتفجرات.
ويوجد في غزة نحو 110 معامل تعمل على تحويل الردم إلى حجارة يمكن استخدامها في إعادة بناء المنازل المدمرة، وتستوعب 720 عاملاً فقط، أما الحديد المسلح فيتم العمل فيه يدوياً في ساحة المباني المستهدفة.
ويعتقد سعيد أن الحجارة المعاد تصنيعها من الردم جيدة، لكنها في الحقيقة غير ذلك، إذ تشكل جودتها 60 في المئة فقط، عند مقارنتها مع تلك الحجارة الجديدة من الإسمنت، وثمنها أكبر دليل، إذ يبلغ ثمن طن الحديد المعاد تعديله 350 دولاراً، بينما المستورد 700 دولار.
وفي العادة، تتولى هذه المهمة وزارة الأشغال العامة والإسكان، وهي المسؤولة بشكل مباشر عن إزالة أنقاض المباني المدمرة، ومهمة إعادة إعمارها من جديد، التي يقدر عددها بحوالى 2200، وبناء على ذلك، وضعت الهيئة الحكومية ضوابط وموانع استخدام للردم المستخرج من الوحدات السكنية، لما فيه من خطورة كبيرة.
ممنوع استخدامها في إعادة الإعمار
ويقول وكيل وزارة الاشغال العامة والإسكان ناجي سرحان، إنهم يمنعون استخدام الحديد أو الحجارة المعاد تدويرها في عملية البناء والإعمار، كونها غير مطابقة للمواصفات المعتمدة، وجرى إثبات ذلك بدراسات هندسية أجراها فريق هندسي متخصص، وبحسب سرحان، فإن وزارته عادة ما تتخلص من الركام، باستخدامه في مناطق جرف الشاطئ، أو في رصف الشوارع، حيث البنية التحتية مدمرة، أو في بعض العناصر غير الإنشائية.
آثار سلبية على الصحة
وبعد الانتهاء من تحميل الردم في العربة المخصصة لذلك، بدا سعيد مرهقاً للغاية، وجلس وسط الركام يلتقط أنفاسه بصعوبة، وأكد أنه يعاني منذ فترة من ضيق في التنفس وسعال دائم، ويعتقد أنه ناجم من تعرضه للغبار بشكل مستمر.
ويقول رئيس المعهد الوطني الفلسطيني للبيئة والتنمية أحمد حلس، إن التعرض المباشر للغبار الناجم من الكتل الخرسانية للمباني المدمرة يحمل ملوثات خطيرة، مثل أكسيد الألومنيوم والحديد، والكبريت، إضافة للكربون، وهي مواد سامة تنتج عن تفاعل الإسمنت مع عناصر كيماوية أخرى تحملها الصواريخ، وعند طرقها تتطاير مع الغبار، وسرعان ما تدخل إلى الرئتين وتستقر في الحويصلات الهوائية، وتمنعها من أداء مهمتها.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإنها حددت ركام المنازل المدمرة من بين مجموعة النفايات الخطرة التي تؤثر بشكل مباشر على صحة الأشخاص العاملين على رفعها ونقلها وتكسيرها، إضافة للأشخاص المتواجدين في محيط وجود الركام.
وكذلك أكدت لجنة "New weapons" وهي متخصصة في دراسة الأسلحة، أن تربة غزة بعد تعرضها للصواريخ الإسرائيلية، باتت تحتوي على 35 معدناً ساماً ومسرطناً، وتركيزات غير عادية للعناصر النادرة.