لم يكن تفصيلاً ما حصل في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بين منطقتين محاذيتين كانتا خط تماس إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990). تعددت الروايات لوقائع تلك الساعات الست التي استمر خلالها إطلاق النار بين متظاهرين من حركة "أمل" و"حزب الله" وسكان منطقة عين الرمانة ومن بينهم مناصرين لحزب "القوات اللبنانية"، لكن النتيجة واحدة لم ينجح "حزب الله" في تكرار مشهد 7 مايو (أيار) 2008، يوم دخل عناصره شوارع بيروت وفرضوا بقوة السلاح واقعاً سياسياً جديداً، إذ صار الحزب منذ ذلك "اليوم المجيد" كما وصفه الأمين العام للحزب حسن نصر الله، المقرر الوحيد لسياسة الدولة ومؤسساتها، مقابل تراجع وتضعضع القوى المناهضة له التي كانت تعرف بالقوى السيادية.
ليست انتفاضة أهالي عين الرمانة في وجه استفزازات مارسها المتظاهرون داخل شوارع المنطقة، بحسب أكثر من شاهد عيان ووفق فيديوهات توثق لحظة الإشكال، سوى تعبير واضح عن حجم استياء غالبية شعبية من ممارسات الحزب وسياساته في فرض إرادته على الشعب اللبناني. فقبل عين الرمانة، انتفض أهالي شويا ذات الغالبية الدرزية في وجه عناصر "حزب الله" الذين أطلقوا الصواريخ من منطقتهم إلى داخل فلسطين المحتلة، وقبلها حصل إشكال في منطقة خلدة بين الحزب وعشائر عربية سنية أدى إلى مقتل عناصر من الحزب، مروراً بإقدام أهالي غريفة في الشوف ذات الغالبية الدرزية أيضاً على حرق صهريج كان ينقل مازوتاً إيرانياً إلى البلدة.
وحتى انتهاء التحقيقات وجلاء حقيقة ما حصل في تلك الساعات المروّعة، تبقى حقيقة واحدة ثابتة أن لبنان دخل بعد أحداث 14 أكتوبر مرحلة جديدة وبقواعد داخلية مختلفة، وسط مخاوف من أن تكون هذه الأحداث وما قد يليها من تطورات مبرراً لإلغاء الانتخابات النيابية المقررة في أواخر مارس (آذار) المقبل.
19 موقوفاً من بينهم 3 سوريين
يتابع الجيش اللبناني تحقيقاته في ما جرى في الطيونة، وسط تكتم شديد نظراً إلى دقة الملف وحساسيته. حتى الآن، بلغ عدد الموقوفين 19 من المتظاهرين وأهالي عين الرمانة، ومن بين الموقوفين 3 سوريين شاركوا في الاشتباكات.
وفيما عُلم أن عناصر الجيش تعمل على تحليل "داتا" كاميرات المراقبة من عدد من المنازل والمحال في المنطقة لتبيان ما تحمله من عناصر قد تفيد التحقيق وتحدد المتورطين في إطلاق النار، تكشف بحسب مصادر مطلعة على التحقيقات لـ"اندبندنت عربية" أن لا أدلة تثبت تورط أهالي عين الرمانة في عمليات القنص، حتى إن المصادر تستبعد وفقاً للتحقيقات الأولية أن تكون حصلت عمليات قنص في وقت ترجح فرضية إطلاق النار لا القنص. ولم يتم توقيف بحسب المعلومات أي قناص من المنطقة، والموقوفون من جهة عين الرمانة لا أدلة على إطلاقهم النار وليس هناك قناصون في صفوفهم، فيما الموقوفون المسلحون هم من صفوف المتظاهرين ممَن أظهرتهم الصور والفيديوهات يحملون الرشاشات وقذائف "آر بي جي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي موازاة التحقيقات الجارية، اتهم الفريقان الجيش اللبناني بالتقاعس عن أداء مهماته في حماية المواطنين. أهالي عين الرمانة استغربوا عدم توقيف المسلحين قبل دخولهم الشارع المؤدي إلى منطقتهم، فيما لا يخفي مسؤولو "حركة أمل" و"حزب الله" امتعاضهم من أدائه، متهمين إياه بأنه تقاعس في توقيف مطلقي النار وترك الأمور تتطور ولم يتدخل.
مصادر سياسية شاركت في اجتماع الأمن المركزي في وزارة الداخلية، أكدت أن الجيش اللبناني كان قبل يوم من التظاهرات موجوداً على الأرض ونشر حواجز في مداخل المنطقة وأقفل معظم الشوارع الفرعية، تاركاً الطريق التي سيسلكها المتظاهرون من الطيونة نحو قصر العدل سالكة أمامهم. واتخذ الجيش، وفق ما شرحه قائد الجيش في الاجتماع، كل الأجراءات لمواكبة التظاهرة، لا سيما عند مرورها في تخوم منطقة عين الرمانة نظراً إلى حساسية هذه المنطقة، إلا أن المتظاهرين تمكنوا بأعدادهم الكبيرة من خرق عناصره ودخلوا في أحد الشوارع المؤدية إلى عين الرمانة. وتمكنت العناصر من الفصل بين الشارعين وإن بعد ساعات، نظراً إلى وجود مدنيين وتجنباً لوقوع ضحايا من الأبرياء. وفي النتيجة، استطاع الجيش درء الفتنة وتوسعها مانعاً أي مخطط لأي حرب أهلية، كما تقول مصادر مطلعة.
حكومة ميقاتي أولى ضحايا أحداث 14 أكتوبر
وفي انتظار ما ستكشفه التحقيقات، لا شك في أن ما حصل في الطيونة ستكون له انعكاسات سياسية أساسية، وأولى ضحاياه حكومة "معاً للإنقاذ" التي لم يمر على تشكيلها وبدء عملها سوى شهر واحد. وحتى الآن، لا جلسة لمجلس الوزراء هذا الأسبوع. وتتحدث مصادر سياسية أن الأزمة الحكومية طويلة، ما يعني أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي توقفت قبل أن تبدأ، والدول الغربية والأوروبية صارت أكثر حذراً. المعلوم أن جلسات الحكومة وقبل أحداث الطيونة كانت معلقة بفعل ربط وزراء "أمل" و"حزب الله" ومعهم وزراء "تيار المردة" مشاركتهم في أي جلسة بوضع مطلب إقالة المحقق العدلي القاضي طارق بيطار بنداً أولاً على جدول أعمالها. وتكشف مصادر مقربة من ثنائي "أمل" و"حزب الله" أن ما بعد أحداث الطيونة، صار المطلوب شرطين أو ثلاثة لتعود جلسات الحكومة وأول هذه الشروط رأس بيطار وثانيها إجراء تحقيقات شفافة في أحداث الطيونة وتحويل الملف إلى المجلس العدلي وعدم الاكتفاء بمعاقبة المنفذين بل المخططين أيضاً، بالإشارة إلى "القوات اللبنانية" ورئيسها سمير جعجع. ويطالب الثنائي بمحاسبة الأجهزة الأمنية التي تساهلت، وفق رأيه، مع مطلقي النار في وجه متظاهرين سلميين.
وفي المواقف المعلنة، غلب خطاب التهدئة على مسؤولي "أمل" و"حزب الله" وتأكيد رفض الانجرار إلى حرب أهلية وتصميم على درء الفتنة. في المقابل، ذكرت مصادر مقربة من الثنائي أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مهددة بالسقوط إذا لم تنفذ المطلوب لحماية السلم الأهلي، ودعت المصادر إلى ترقب موقف نصر الله مساء الاثنين المقبل، الذي من شانه أن يحدد خريطة طريق المرحلة المقبلة.
مصادر ميقاتي: الحكومة باقية
وذكرت مصادر متابعة للملف لـ "اندبندنت عربية"، أن تواصلاً جرى في الساعات الأخيرة بين ميقاتي وقصر الإيليزيه، أكدت خلاله الرئاسة الفرنسية أن القاضي بيطار "خط أحمر" وأنه يجب التحرك باتجاه عدم انهيار الحكومة.
وتستبعد مصادر مقربة من ميقاتي أن تسقط الحكومة حالياً وتؤكد أنها باقية لأن لا أحد يريد في الوقت الراهن الذهاب إلى المواجهة الكبرى. وتكشف مصادر السراي أن الحل لم ينضج بعد ومن المبكر الحديث عن خط واضح لمسار الحل، مستدركة أن الخطوط غير مقطوعة والتواصل مستمر بين جميع الفرقاء. وتؤكد مصادر ميقاتي أنه لن يتراجع عن مبدأ فصل السلطات في ما يتعلق بقضية إقالة القاضي بيطار، مشدداً على أن مجلس الوزراء لا صلاحية له في تطيير القاضي، وتكشف المصادر ذاتها أن ميقاتي يحاول إيجاد حل يوفق من خلاله بين القانون والدستور. وإذ تكشف المصادر المقربة من ميقاتي أن التقارير الأمنية تظهر حتى الآن أن "حزب الله" كان هو البادي في إشكال الطيونة، وترفض استباق التحقيقات بإطلاق الاتهامات المسبقة، تنفي أن يكون الثنائي أضاف شرطاً جديداً للعودة إلى الحكومة وهو تجريم "القوات اللبنانية" ورئيسها، مستبعدة إمكانية عزل "القوات اللبنانية" كما حصل عام 1975 بعزل حزب "الكتائب اللبنانية" بعد أحداث بوسطة عين الرمانة. فهل الأزمة طويلة؟ تجيب مصادر ميقاتي إذا طالت، الكل سيدفع الثمن.
بداية مرحلة جديدة
يعلق النائب السابق مروان حمادة لـ"اندبندنت عربية" أن "أحداث الطيونة هي بداية لمرحلة جديدة في لبنان". لا يفصل حمادة ما يحصل في المنطقة، خصوصاً في العراق وسوريا واليمن من تحدٍّ لإيران، معتبراً أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان وضع إيران في تحدٍّ كبير، كما أنها تعرضت في الفترة الأخيرة إلى ضربات قاسية لم يعلن عنها، على مواقع مجموعاتها في سوريا، كما فشلت في الحصول على مدينة مأرب في اليمن. وما المشهد اللبناني من شويا مروراً بخلدة وغريفة الشوفية وصولاً إلى عين الرمانة سوى دليل قاطع على التحدي الذي تواجهه طهران في لبنان. ويعتبر حمادة أن ما حصل في الطيونة يؤكد أنه "طفح الكيل لدى اللبنانيين الذين تم إفقارهم وتدمير مؤسساتهم فيما لا يزال السيد نصر الله يتحدث عن المقاومة، أي مقاومة؟".
وفي أحداث الضنية أيضاً، يقرأ النائب المستقيل أن "المعركة عادت لترتسم مجدداً تحت عنوان سيادة لبنان وقراره الحر"، معتبراً أنه "بلا سيادة واقتصاد". ويستبعد حمادة أي تصعيد من قبل الثنائي لأن المزيد من التصعيد سيربك، بحسب رأيه، "ما تبقى من التيار الوطني الحر".
في المقابل، يتوقع حمادة أن يعود السنّة إلى موقعهم الطبيعي إلى جانب السياديين، أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط فهو "متربص"، على حد قوله.
استياء فرنسي من "حزب الله"
وفيما تكشف مصادر دبلوماسية لـ"اندبندنت عربية" عن استياء دولي مما حصل في الطيونة وما سبقه من محاولات ترهيب للقاضي بيطار، تتحدث عن استياء فرنسي من "حزب الله"، لا سيما بعد التسهيلات التي قدمتها باريس للحزب في الحكومة والتي انتهت من قبله إلى تدمير ما تبقى من الشرعية اللبنانية. ويتوقع من ميقاتي أن يعلن الحقائق، فيما التعاطي الدولي مع حكومته ومع السلطات اللبنانية سيتوقف على كيفية تعاملها مع التحقيقات في انفجار الرابع من أغسطس (آب) 2020 في مرفأ بيروت، التي باتت لا تقل أهمية عن الإصلاحات بالنسبة إلى المجتمع الدولي.
وفيما تترقب المصادر الدولية موقف رئيس الجمهورية ميشال عون وسط تساؤلات عن مدى استمراره على موقفه في رفض إقالة القاضي بيطار، تعتبر أن الرئيس عون واقع بين نارين، نار التصادم مع "حزب الله"، حليفه الدائم والداعم له في الاستحقاقات كلها، ونار انعكاسات تطيير بيطارعلى الرأي العام اللبناني، خصوصاً المسيحي قبل الانتخابات النيابية.
وسط ذلك، قال نائب من كتلة "حزب الله" إن "الشهداء في كمين الطيونة الغادر، قُتلوا على يد قناصة القوات اللبنانية ومسلحيها الذين أعدوا هذا الكمين بأوامر من قيادتهم ذات التاريخ الطويل في القتل والغدر والمجازر".
وأضاف، "الهدف الذي سعت إليه القوات اللبنانية من هذا الكمين الدموي والغادر، واستشهد فيه سبعة مواطنين وجرح العشرات، كان جر البلد إلى الفتنة والحرب الأهلية، خدمة لمشغلي القوات من الأميركيين وغيرهم، أما الذي أجهض أهداف الكمين، فهو الوعي والبصيرة والمسؤولية الوطنية لدى قيادتي حركة أمل وحزب الله وجمهورهما".
ولفت إلى أن "واجب جميع المسؤولين السياسيين والحزبيين والعسكريين والأمنيين، يتمثل في اتخاذ المواقف والخطوات اللازمة تجاه هذا الكمين القواتي الغادر، خصوصاً ملاحقة القتلة والمخططين والمسؤولين القواتيين واعتقالهم وإنزال العقوبات الشديدة بهم، وصولاً إلى رأس الهرم في هذا الحزب".