في واحد من أعداده الأخيرة، عاد ملحق صحيفة "لوموند" الفرنسية الأسبوعي ليتحدث عن طنجة، تلك المدينة التي لا يغيب ذكرها في فرنسا بشكل خاص، إلا ليعود من جديد، ولكن العودة بدت هذه المرة شاحبة تتحسر على تلك الأزمنة التي كانت فيها مدينة الشمال المغربي الساحرة زاوية من العالم كوزموبولياتية ساحرة، تجتذب كبار مبدعي العالم خالقةً من حولهم أساطير شكلت جزءاً أساسياً من ثقافة القرن العشرين. وكما جرت العادة لم يكن ثمة مفر من أن يترافق ذكر طنجة في "لوموند" مع تعداد أسماء الكبار الذين عاشوا فيها ولو ردحاً من الزمن. وكالعادة أيضاً كانت حصة الأسد للكاتب الأميركي بول بولز الذي ارتبط اسمه بها مدى حياته، وكان من أغزر المعبرين عنها وعن حياتها.
حضور بعد ربع قرن
وهكذا، بعد نحو ربع قرن من موته (1999)، وهو يقارب التسعين، عاد بول بولز ليستعاد ذكره مع هذه العودة، لاسمي المغرب وطنجة إلى الواجهة. وعلى الرغم من كثرة عدد الكتاب الأميركيين وغيرهم الذين عاشوا هناك وكتبوا بعض أجمل أعمالهم مستلهمين هذه المدينة المغربية الواقعة عند زاوية اللقاء بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، فإن بولز - مميزاً في هذا المجال - يظل كاتب طنجة والمغرب بامتياز، ولكن المشكلة تكمن هذه المرة في بعض الذكريات السيئة التي تركها صاحب "السماء الواقية"، الرواية المعروفة أكثر بعنوانها الفرنسي "شاي في الصحراء"، لا سيما في الفيلم الذي اقتبسه الإيطالي برناردو برتولوتشي منها، ذكريات تحدث عنها في ملحق "لوموند" بعض ممن عرفوه، وآخرون سمعوا به لا أكثر. ومن تلك "الذكريات" ما قاله محمد مرابط الذي اشتغل معه على تدوين حكايات شعبية طنجاوية ومغربية، يقول اليوم إن بولز وورثته حققوا بفضلها مكاسب مالية، بينما لم يدفع له الكاتب مليماً!
في رفقة طيبة
وبول بولز، كما يعرف كثر، كاتب وموسيقي أميركي، عاش القسم الأكبر من سنوات حياته في طنجة، حيث جاور مواطنين له عاشوا هناك بدورهم، مثل ترومان كابوتي، وتينيسي ويليامز، وريتشارد بوروز، وبخاصة زوجته الكاتبة جين بولز، التي استوحى من حياته معها إلى حد ما، روايته "السماء الواقية"، التي تعد أهم وأجمل أعماله، حتى وإن كانت رواياته الأخرى وقصصه (مثل "من بعدك الطوفان"، و"بيت العنكبوت"، و"الدغل الأحمر")، لا تقل عنها أهمية وجمالاً. ولقد عاش بولز بين 1910 و1999، ومات في المغرب، وكان صاحب يد في إظهار أدب محمد شكري.
والحال أن رواية "السماء الواقية" بقدر ما هي جوانية وحميمية، تبدو من الروايات الأكثر قدرةً على السماح بعديد من القراءات الخاصة. وبقدر ما هي رواية "مفاتيح" تبدو حافلة بالألغاز، حيث إن بولز لم يكن مغالياً أبداً حين كان يؤكد فيما مضى لمن يسأله عن روايته الأولى هذه، بأنه كان في الأصل راغباً في رسم ملامح رحلة ثلاث شخصيات تغور في الصحراء، ثم ترك الرواية بعد ذلك تكتب نفسها بنفسها، على شاكلة الكتابة السوريالية إلى حد ما. قد لا يكون هذا الكلام دقيقاً في كليته، بخاصة لمن يقرأ الرواية بعناية وبطء أكثر من مرة، لكنه يقرب من الصحة في التفاصيل، حيث في صفحات عديدة، يطلق بولز العنان للغة للغوص في دواخل شخصياته وهواجسها، لا سيما شخصيتي بورت وكيت، ما يضعنا فعلاً أمام ما يشبه الكتابة التلقائية.
بناء هندسي
لكن هذا ليس أكثر من سمة جانبية من سمات الرواية، لأن الأخيرة، على الرغم من أبعادها الصوفية والحلولية، أو ربما بالتواكب الخلاق معها، مبنية بناءً هندسياً، بل نكاد نقول رياضياً. وإذا تذكرنا هنا أن بول بولز كان موسيقياً معروفاً قبل أن يتحول إلى الكتابة، ندرك العلاقة بين منهج التفكير لديه، وأسلوبه في كتابة "السماء الواقية"، حيث يقسم العمل إلى ثلاثة أقسام يحمل أولها العنوان الذي أعطي فيما بعد للترجمة الفرنسية "شاي في الصحراء"، والثاني عنوان "نسغ الأرض الحي"، فيما يحمل الثالث عنوان "السماء". وفي التدرج من "الصحراء" إلى "الأرض" و"السماء" يقود بولز رحلة شخصياته إلى الجحيم، لأن "السماء الواقية" هي في نهاية الأمر، سيرة الهبوط إلى الجحيم، ولكن أي جحيم؟
وجودية سارتر مرت من هنا
من دون أن يرغب ذلك، ولأن المناخ العام في الأدب الأوروبي في ذلك الحين كان مناخاً وجودياً عبثياً، أعطى بول بولز روايته طابع النص الوجودي كما وضع سارتر أسسه، "لكن سارتر في نهاية الأمر متفائل، أما أنا فإنني يائس تماماً". والحال أن "السماء الواقية" هي رواية يأس، لا ترى خلاصاً من الشرط الإنساني إلا في نوع من الذوبان المستحيل للكينونة. ذوبان يسعى إليه بورت مورسبي، وتنقاد معه فيه زوجته كيت، غير مقتنعة تماماً، لكنها في الفصل الأخير، وبعد موت بورت مباشرة، تجعله يحل فيها تماماً، لتكمل الرحلة مكانه، ولكن أي رحلة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرحلة إلى اللامكان، إلى خلاص نهائي يتمثل في الحلول بعناصر الطبيعة: في الرمل، والماء، والريح، والنار. هذه العناصر الأربعة التي تشكل في نهاية الأمر جوهر كينونة الصحراء. هذا الإرث، هو الذي ستحمله كيت فوق كتفيها، بعد أن تطبع على جبين بورت المسجى في غرفة الحصن الكولونيالي بمدينة "السباع" في أغوار الصحراء الجزائرية، قبلة الوداع، وتنطلق هائمةً في الصحراء. ما الذي ستبحث عنه كيت في رحلتها تلك؟
البحث عن لا شيء
للوهلة الأولى: لا شيء. ستبدو كيت وكأنها في "رحلة هروب" أكثر منها في "رحلة بحث". ستبدو وكأنها لم تعد قادرة على مواجهة ماضيها. ستبدو وكأنها تغوص في رحلة نسيان، يؤدي بالكاتب إلى أن التوقف عن ذكر بورت في أي صفحة من صفحات القسم الثالث، وحتى حين ستتذكر كيت ما قاله لها بورت في لحظة من لحظات الرواية من أن "السماء التي تعلو رؤوسنا هي الواقي الذي يحمينا من جحيم الظلمات، فإذا انثقبت ستهبط تلك الظلمات فوق رؤوسنا"، سنفاجأ بالكاتب يقول لنا، إن أحداً ما قال لها هذه الكلمات يوماً. هل معنى هذا أن كيت نسيت بورت؟ ليس هذا مؤكداً. الأفضل أن نقول إن بورت دخل تماماً في جوانية كيت، بحيث إنه لم يعد موجوداً في خارجها، لا في الواقع، ولا حتى الذكريات. حلول تام، كان ينقصه كي يكتمل أن تتمكن كيت من الذوبان في الصحراء، لكن "الصحراء صغيرة كان لا بد لنا أن نعثر عليك فيها نهاية الأمر". ستضيف لها مسؤولة القنصلية الأميركية في المدينة التي سينتهي إليها الأمر فيها، "لو شئت حقاً أن تضيعي، ضيعي هنا، في المدينة. هنا فقط لن يعود بإمكان أحد أن يعثر لك على أثر!".
المنطلق تجربة شخصية
كتب بول بولز "السماء الواقية" خلال إقامته في فاس أواخر الأربعينيات. وكانت أول رواية طويلة يكتبها، بعد أن كتب عشرات القصص القصيرة التي يرى غور فيدال (الكاتب الأميركي الساخر) أنها من أجمل ما كتب باللغة الأميركية. وكتب بولز الرواية الأولى انطلاقاً مما يشبه التجربة الشخصية: كيت استعار بعض ملامحها من زوجته، وشخصية تانر استلهمها من صديق له كان يدعى تورنر. كما استعار من ذاته بعض ملامح بورت. وكيت تعيش معاناة بورت، لكنها تقودها إلى البحث عن تلك الحرية وعن ذلك التطهر اللذين كان بورت يسعى للوصول إليهما.
بورت نفسه يترك الرواية في منتصفها، ولكن من بعد ما سلم "الراية" لكيت، حتى من دون أن يرغب في ذلك. وكيت تتابع، نيابةً عن الآخرين، خصوصاً عنه، رحلة الهبوط إلى الجحيم، ولكن بحثاً عن السماء الواقية، السماء التي لا يمكن أن تثقب أبداً، لكنها إذ تعجز عن العثور على حريتها، تجد نفسها مأسورة وسط براح الصحراء، في بيت أبي القاسم وقد أضحت واحدة من زوجاته.
نحو رواية لا تنتهي
الرحلة التي تقوم بها كيت، رحلة "بيكارية" (دائرية). هذه الدائرية في العمل هي التي جعلت بولز يرى دائماً أنه كان في وسعه أن يكمل الرواية إلى ما لا نهاية، تماماً كما هو حال الإيقاعات الموسيقية الصوفية والرقص الحلولي. كما جعلته يقول لمن يسأله عن مصير كيت: "يمكنكم أن تختاروا لها أي مصير، وتكتبوا رواية جديدة".