لا يكتفي التونسيون في كل سنة عند إحيائهم ذكرى المولد النبوي الشريف بالاحتفال به في المساجد والزوايا الصوفية التي تتزيّن وتفتح أبوابها لاستقبال الناس في ليلة يعلو فيها الذكر ومدح النبي محمد، إنما يضيفون إليها عادة تناقلتها العائلات جيلاً بعد جيل وهي عصيدة "الزقوقو".
مدينة القيروان، بني فيها أول مسجد بعد الفتح الإسلامي تونس حيث شيّد الصحابي عقبة بن نافع المدينة، ومسجدها الذي سمي باسم "جامع عقبة"، الذي يشهد كل سنة ذكرى إحياء المولد النبوي، ويتحول عشرات الآلاف من التونسيين، ومن دول شمال أفريقيا إلى القيروان للمشاركة في إحياء الذكرى والاستماع إلى ذكر الله الحكيم، ومدائح نبوية تختتم بقراءة قصيدة "الهمزية في مدح خير البرية" للإمام شرف الدين أبي عبدالله محمد بن سعيد البوصيري.
ليلة القيروان المشهودة
عشرات آلاف الزوار توافدوا على المدينة لإحياء ليلة المولد النبوي الشريف بعد أن منعت إجراءات مجابهة جائحة كورونا من إقامة الاحتفالات، العام الماضي، المدينة تزينت، وارتفعت من مآذنها قراءات الذكر الحكيم، والمدائح النبوية في أجواء من الروحانيات أعادت لها بريقها ورونقها الذي يميّز عاصمة الإسلام الأولى في تونس وشمال أفريقيا، بهذه التعابير وصفت الصحافية نعيمة الشرميطي، ابنة القيروان أجواء الاحتفالات في المدينة التي تحولت ساحة لتلاقي الناس من كل مناطق البلاد الذين حضروا للصلاة في مساجدها، والمشاركة في الاحتفال الديني الذي يقام في مسجد عقبة ومقام الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي المعروف "بسيدي الصحبي"، نسبة إلى أنه من صحابة النبي محمد، وقالت الشرميطي لـ"اندبندنت عربية" إنه في يوم المولود، تتسابق العائلات للترحيب بضيوفها وتضع في بهو المسجد أطباق حلوى "المقروض القيرواني" الشهير، ويوزع الأطفال الماء المعطر بماء الزهر على الضيوف، وهم يرتدون الملابس التقليدية التونسية، هذه الأجواء تبقى عالقة في أذهان الجميع، أبناء القيروان وزوارها، وهم يحيون هذه الليلة المباركة.
عصيدة "الزقوقو" حكاية تونسية
يستغرب البعض من أن هذه العصيدة موجودة فقط في تونس، البلد الوحيد الذي يستهلكها، وتستخرج من ثمرة "الصنوبر الحلبي"، وبحسب المؤرخ عبد الستار عمامو، ظهر استعمال "الزقوقو" بداية القرن العشرين، وتتصدر عصيدة "الزقوقو" لائحة الأكلات في الاحتفال بعيد المولد النبوي في معظم المناطق بينما تحتفظ بعض المناطق في الجنوب التونسي بعادة "العصيدة البيضاء" المكونة من القمح، والتي تزيّن بالعسل والسمن.
العصيدة عادة على رغم الغلاء
الشكوى من ارتفاع أسعار "الزقوقو"، وما يلزم لتحضيرها من مكسرات، عادة دأب عليها التونسيون، وتقول السيدة وفاء الهمامي إن الاحتفال بالمولد النبوي عادة تونسية تتوارثها الأجيال وتتسابق العائلات لتحضير العصيدة وتزيينها بالمكسرات، وعلى الرغم من الشكوى في كل عام من ارتفاع الأسعار، فإن الإقبال على شرائها وإعدادها لا يتوقف أبداً، معتبرة في ذلك منفعة اقتصادية لكثيرين من المزارعين في مناطق الشمال والوسط الغربي التي تنتشر فيها زراعة أشجار "الصنوبر الحلبي".
فنون طبخ العصيدة
وكغيرها من الحلويات والأكلات التقليدية، تفاخر العائلات التونسية في الأعياد الدينية والمواسم والأفراح بإعداد أطباق تقليدية أو إحياء عادات مثل ختان الأطفال، أو ما يعرف "بالموسم" وهي عادة متأصلة، إذ يهدي الخطيب خطيبته في المواسم، هدية، عادة ما تكون قيمتها بحسب الظروف المادية، وعلى الرغم من التطور المجتمعي، ما زال كثيرون يعتبرونها جزءاً من العادات والتقاليد المحببة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول السيدة فطومة الغربي إن "الموسم" من التقاليد الجميلة في تونس لأنها تسهم في تعزيز التقارب بين العائلات.
إعداد العصيدة
تحويل ثمار "الصنوبر الحلبي" إلى عصيدة عمل يحتاج جهداً، إذ يتم تنظيف حبات "الزقوقو" وغسلها بالماء ثم تنشيفها وطحنها حتى تتحول إلى عجينة فيها كمية من زيت ثمار الصنوبر الهندي، وتضاف إليها كمية من الطحين والسكر، وتطبخ على نار هادئة مع التحريك المستمر، بهذا التوصيف قدمت السيدة شيراز حنيحينه كيفية إعداد العائلات التونسية العصيدة، والتي تزين في ما بعد بالمكسرات التي يطحن منها الفستق الحلبي، والبندق.
وتضيف حنيحينه أن العائلات التونسية اكتشفت أنواعاً جديدة من العصائد التي بدأت تنافس "الزقوقو"، مثل عصيدة البندق أو الفستق الحلبي.
المولد النبوي والفرح الاجتماعي
أجواء البهجة بالمولد النبوي تعبر عن ترابط مجتمعي كبير وتأكيد لعادات طبعت علاقة التونسي بالإسلام، ويصف الباحث الاجتماعي رياض لطيف العدد الكبير من الناس الذين ذهبوا هذه السنة لزيارة مدينة القيروان وإحياء ليلة المولد النبوي بأنها رسالة وتعبير عن أصالة الثقافة الإسلامية في المجتمع، ورفضه كل محاولة للمساس بها أو منعها أو تجاهل الاهتمام بها من أطراف كانت تعتبرها بدعة.