في موازاة الجمود الحكومي في لبنان، الناجم عن الخلاف بشأن مطلب وزراء الثنائي الشيعي إقالة المحقق العدلي بجريمة انفجار المرفأ القاضي طارق بيطار، الذي أدى إلى تعليق اجتماعات مجلس الوزراء، تشهد قضية النزاع بين لبنان وإسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية تحريكاً جديداً، بعدما جرى تعليق المفاوضات غير المباشرة بين الدولتين في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، بناءً على رفض الجانب الإسرائيلي طرح الجانب اللبناني خطاً بحرياً جديداً لتلك الحدود غير الذي سبق أن أبلغ الأمم المتحدة به منذ عام 2013، استناداً إلى مرسوم صادر عام 2011.
فتحت زيارة مستشار وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة المعيّن حديثاً في منصبه وفي مهمة الوساطة بين لبنان وإسرائيل، آيموس هوكستين، إلى بيروت في 20 و21 أكتوبر (تشرين الأول) الباب على إمكان استئناف البحث بين بيروت وتل أبيب بشأن الحدود البحرية، خصوصاً أن انطباعات إيجابية أشيعت بعد لقاءاته مع كبار المسؤولين اللبنانيين، رؤساء الجمهورية ميشال عون، والبرلمان نبيه بري، والحكومة نجيب ميقاتي، إضافة إلى وزيري الخارجية عبدالله بوحبيب والطاقة وليد فياض، والوفد اللبناني العسكري والفني المفاوض. وطلب لبنان معاودة المفاوضات بعد أن طلب الرئيس عون ذلك في كلمته التي ألقاها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي. وانتقل هوكستين في 22 أكتوبر إلى تل أبيب لاستكشاف استعدادات الجانب الإسرائيلي من أجل استئناف التفاوض.
وترددت معلومات أن هوكستين تبلغ من الرؤساء الثلاثة بأنهم متفقون على وجوب إنهاء هذه الملف والاستعداد لليونة في الموقف.
كيف تجمدت المفاوضات
وكانت مفاوضات الترسيم بين لبنان وإسرائيل بدأت في 14 أكتوبر 2020 استناداً إلى "اتفاق إطار" توصل إليه الرئيس بري مع الوسيط الأميركي الذي لعب دور "المسهِّل" برعاية الأمم المتحدة في مقر قيادة القوات الدولية المرابطة في الجنوب اللبناني في منطقة الناقورة، واستغرقت أربع جولات، لكن الجولة الخامسة التي كانت مقررة بداية ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه لم تنعقد نظراً إلى رفض إسرائيل إضافة الوفد اللبناني المفاوض 1430 كيلومتراً مربعاً إلى مطالبته السابقة وفقاً لخريطة أودعها الأمم المتحدة بـ864 كيلومتراً مربعاً وفق الخط البحري 23. واعتبر الجانب الإسرائيلي أن لبنان يتقدم بمطلب تعجيزي، إذ إن المساحة التي يطلب ضمها إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يعتبر أنها عائدة له باتت تبلغ 2294 كيلومتراً مربعاً، وتصل حدودها إلى الشاطئ القريب من مدينة حيفا. ورد الجانب الإسرائيلي فطرح خريطة جديدة تعطي للدولة العبرية حقوقاً في مياه البحر تصل إلى حدود مدينة صيدا القريبة من بيروت. وبدا في حينها أن الجانبين يرفعان سقف مطالبهما. ورأى المفاوضون الإسرائيليون أن لبنان عدل في خريطة حقوقه البحرية أكثر من 6 مرات خلال السنوات الماضية. أما الوفد اللبناني فاعتبر أن الخريطة السابقة التي أُبلغت إلى الأمم المتحدة، استندت إلى تقديرات خاطئة، وأن مطالبته بـ1430 كيلومتراً مربعاً كمساحة إضافية ترتكز إلى قانون البحار وإلى خرائط قديمة فرنسية أميركية عن نقطة انطلاق الخط البحري الخاص بلبنان من اليابسة من الخط 23. إلا أن الخريطة اللبنانية الجديدة تشمل حقل "كاريش" الذي تعمل فيه شركة "إنيرجين" اليونانية لمصلحة إسرائيل، والذي لزّمت الأخيرة الحفر فيه إلى شركة "هاليبرتون" الأميركية في سبتمبر الماضي.
وبعد تجميد المفاوضات التي كان يقودها السفير الأميركي جون دو روشيه في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، نتيجة الخلاف على المساحة المتنازع عليها، سعى النائب السابق لوزير الخارجية ديفيد هيل إلى استئنافها في مايو (أيار) 2021 بعد زيارة له إلى بيروت في أبريل (نيسان) من العام نفسه، بعدما أبلغه الرئيس عون أن الخط الجديد الذي طرحه الوفد اللبناني العسكري الفني قابل للتفاوض. وما شجع السفير هيل على السعي لمعاودة إطلاق التفاوض إن امتنع عون عن توقيع مرسوم زيادة المساحة التي يطالب بها لبنان في حينها. لكن محاولة هيل باءت بالفشل لأن الجانب الإسرائيلي رفض ذلك، إذا كان لبنان سيبقي على الخط 29 أساساً للتفاوض، ولم يكن متحمساً حتى لاعتماد أسلوب الوساطة الأميركية المكوكية بدلاً من الجلسات في مقر قوات الأمم المتحدة في الناقورة. كما أن إسرائيل رفضت اقتراحاً نقلته واشنطن عن عون باعتماد خبراء دوليين للتحكيم بشأن الخط الجديد، وكذلك رفضت طلب لبنان تجميد التنقيب والحفر في حقل "كاريش" في انتظار هذا التحكيم.
خلفيات رفع السقف
قيل كثيراً بشأن خلفيات تغيير الخط البحري الذي يحدد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان في البحر. ومع أن الوفد العسكري اللبناني يؤكد امتلاكه معطيات صلبة لزيادة المساحة العائدة للبنان، فإن من التقديرات التي أشيعت في حينها أن "حزب الله" يقف وراء رفع السقف اللبناني من أجل إبقاء الخلاف على حقوق لبنان البحرية والنفطية والغازية معلقاً، لأنه يتيح للحزب الادعاء بأنه يحتفظ بسلاحه من أجل الدفاع عن حقوق لبنان البحرية. وقيل أيضاً إن عون استغل تعديل خبراء الجيش خريطة الحدود البحرية من أجل استخدام ذلك ورقة للمساومة بهدف مطالبة واشنطن برفع العقوبات التي كانت فرضتها على صهره ووريثه السياسي رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 وفقاً لقانون "ماغنتسكي".
وبصرف النظر عن هذه التقديرات، التي يتكرر الحديث عنها مجدداً مع تحرك الموفد الأميركي هوكستين، فإن الأخير خبير في النزاع اللبناني- الإسرائيلي، لأنه كان وسيطاً في شأنه بين العامين 2014 و2017.
هوكستين يتمسك بـ"اتفاق الإطار"
ويقول مصدر مقرب من الرئيس بري لـ"اندبندنت عربية" إنه (كلف قبل سنوات من جانب عون ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري بالتفاوض على هذا الملف) كان توصل مع هوكستين إلى النتيجة التي حصل عليها حين اتفق مع مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق ديفيد شينكر في أكتوبر 2020، على "اتفاق الإطار" للتفاوض غير المباشر في الناقورة، وكان مطلب لبنان في حينها الحصول على مساحة الـ864 كيلومتراً مربعاً. وهوكستين بعودته إلى مهمة الوساطة، مطلع بالتالي على تفاصيل الملف والموقفين اللبناني والإسرائيلي منذ زمن. إلا أن تولي ترمب الرئاسة أدى إلى تغييرات في الإدارة الأميركية فتولى المهمة مع لبنان بداية السفير ديفيد ساترفيلد ثم خلفه شينكر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعكس هوكستين اطلاعه هذا والتوجهات التي يسعى إلى إرسائها من أجل استئناف المفاوضات، في مقابلة مطولة أجراها ليل 21 أكتوبر عشية توجهه من بيروت إلى إسرائيل، مع محطة "الحدث- العربية" الفضائية.
وكرر هوكستين في المقابلة التلفزيونية التي دامت زهاء نصف ساعة الحديث عن "اتفاق الإطار" (الذي جرى التوصل إليه مع بري لإطلاق المفاوضات على أساس أن مطلب لبنان الحصول على 864 كيلومتراً مربعاً صادرتها إسرائيل في الخريطة التي أبلغ الأمم المتحدة بها مستنداً إلى الخط 23) أكثر من 10 مرات. واعتبر أنه حين بدأت إسرائيل في حقل كاريش لم يكن لبنان حدد الخط 29 للتفاوض.
التأكد من خفض سقف المطالب
ومما قاله إنه جاء إلى لبنان بناء لطلب المسؤولين فيه، للاستماع إليهم بشأن الطريقة الفضلى لإحداث تقدم في معالجة النزاع البحري مع إسرائيل. واستبعد الموفد الأميركي اعتماد أسلوب الوساطة المكوكية بين البلدين، إلا للتمهيد من العودة إلى صيغة التفاوض غير المباشر في الناقورة وفقاً "لاتفاق الإطار"، والتي هي أساس صلب لإحداث تقدم.
وفي وقت قال مصدر مطلع على جانب من لقاءات هوكستين إنه جاء ليتأكد إذا كان لبنان سيتخلى عن أسلوب رفع السقف في مطالبه، وأن زيارته إلى إسرائيل تهدف أيضاً إلى تلمس مدى الاستعداد الإسرائيلي لخفض سقف المطالب، فإن الموفد أوضح أن إطالة وقت التفاوض لا يوصل إلى اتفاق، وإذا كانت هناك إرادة لدى الطرفين يمكن التوصل إلى اتفاق في وقت قصير لأن عمر الملف يناهز العشر سنوات. وإذ نفى أن تكون واشنطن منحازة إلى الموقف الإسرائيلي، قال إن كثراً من الإسرائيليين يعتبرون أنها منحازة إلى الموقف اللبناني.
واستبعد فكرة الاستعانة بخبراء دوليين لأن القرار بشأن المساومة على الأمر سيتخذ من قبل الجانب اللبناني، نافياً اتهامات وجهت إلى دوره بأنه يسعى لتطبيع لبنان علاقاته مع إسرائيل. لكنه لفت إلى أن لجوء لبنان إلى محكمة العدل الدولية قد يستغرق 10 إلى 15 سنة للحصول على نتيجة، وإذا كان ينوي استثمار الموارد العائدة له في البحر فيجب التوصل إلى اتفاق هذه السنة، "فلو حصل الاتفاق حين كنت في بيروت في 2016، لما كان هناك انقطاع في الكهرباء الآن، ولكان ثمن الغاز منخفضاً كبلد منتج له ومصدِّر، بدلاً من شرائه بالسعر المرتفع الحالي. وإذا هناك نزاع حدودي سيكون صعباً جذب الشركات العالمية.
ويأمل الجانب الأميركي بتشديده على "اتفاق الإطار" في أن يكون القرار اللبناني النهائي هو العودة إلى مطلب الحصول على الـ864 كيلومتراً مربعاً. وتفيد المعطيات بأن الجانب اللبناني يتجه إلى هذا الخيار، بحيث يجري إحياء نتائج كان توصل إليها بري مع المفاوضين الأميركيين السابقين، بعيداً من الأضواء، ومنهم هوكستين، بالتسليم بحق لبنان في معظم هذه المساحة التي كان رئيس البرلمان يتطلع إلى أن تؤدي مفاوضات الناقورة إلى الحصول عليها كاملة. فهل التوافق المفترض على خفض السقف سينجح هذه المرة أم أن إقحام هذا الملف في التجاذبات الداخلية وخلفياتها الإقليمية سيضيع فرصة جديدة على لبنان؟ فالأسئلة كثيرة بشأن إمكان توظيف عون أو "حزب الله" لهذا الملف في الصراع مع الجانب الأميركي. الأول من أجل الانفتاح على واشنطن مقابل اتهامه بأنه يساير الموقف الإيراني. والثاني يعتبر أنه يخوض معركة في وجه السعي الأميركي إلى إضعاف نفوذه في البلد.
إذا سلكت مهمة هوكستين في إسرائيل الطريق الإيجابي فإن إحياء التفاوض على الحدود البحرية، قد يحدث كوة صغيرة في جدار التأزم اللبناني على المستويات الأخرى، في ظل جمود العمل الحكومي جراء الخلافات بشأن التحقيق في انفجار المرفأ.