أسود اللون، لزج الملمس، وعمره ملايين السنين، إنه النفط الخام الذي لم يكن بمنأى عن الجدل يوماً. ولكن لما كانت مكوناته تشكل عنصراً أساسياً في أدواتنا كافة تقريباً، بدءاً بأجهزة تنظيم ضربات القلب المنقذة للأرواح وصولاً إلى مستلزمات النظافة التي نستخدمها يومياً، فإنه يُعدّ مورداً طبيعياً قيماً نعجز عن تحمل عبء الاستغناء عنه، أقله في أيامنا هذه.
الآن، يقود بلد يُعتبر صنواً أو مرادفاً لكلمة بترول عملية الانتقال إلى تحويل المخلفات المتبقية من إنتاج النفط إلى موارد أكثر فائدة، على أمل في أن يفضي ذلك إلى انخفاض حاد في حجم الضرر البيئي الذي تخلفه عادة هذه العملية.
تملك المملكة العربية السعودية ثاني أكبر احتياطي للنفط الخام في العالم بعد فنزويلا. في 2020، وفق أحدث البيانات التي توفرها "إدارة معلومات الطاقة الأميركية"، كانت المملكة ثاني أكبر منتج للنفط عالمياً، تسبقها الولايات المتحدة فقط، بإنتاج يعادل ما يزيد قليلاً على 11 مليون برميل نفط يومياً، علماً أن الرقم المذكور يشمل النفط الخام وجميع السوائل البترولية وأنواع الوقود الحيوي.
على الرغم من اعتماد اقتصادها إلى حد كبير على صناعة النفط، التزمت السعودية توليد 50 في المئة من الكهرباء من الغاز الطبيعي ومصادر الطاقة المتجددة، تماشياً مع الخطة الطموحة "رؤية 2030" Vision 2030. وكجزء من أهداف "المبادرة السعودية الخضراء" Saudi Green Initiative، ترمي الرياض أيضاً إلى خفض مستويات انبعاثات البلاد من ثاني أكسيد الكربون بأكثر من 4 في المئة من المساهمات العالمية متوسلةً مبادرات متعددة، من بينها زراعة غابات المانغروف التي تمتص هذا الغاز ذا التأثير الكبير في ظاهرة الاحترار العالمي.
بغية خفض انبعاثات الكربون بشكل أكبر، توظف المملكة العربية السعودية الآن استثمارات كبيرة في مشاريع تعمل على احتجاز ثاني أكسيد الكربون والاستفادة منه عبر إعادة تدويره وتخزينه (ما يسمى اختصاراً CCUS)، محولة هذا الغاز إلى منتجات نافعة وقابلة للبيع.
إنتاج بوليولات موفرة للطاقة
معلوم أن أوروبا والولايات المتحدة تشهدان حالياً غالبية المشاريع المتعلقة باحتجاز ثاني أكسيد الكربون والاستفادة منه وتخزينه، فيما ما زالت بلدان الشرق الأوسط وأستراليا والصين وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا تحاول اللحاق بالركب في هذا المجال.
"أرامكو السعودية" Saudi Aramco، شركة النفط الوطنية في المملكة، تُعتبر حالياً المستثمر الرئيس في مشاريع احتجاز ثاني أكسيد الكربون والاستفادة منه وتخزينه في البلد. وتمتلك 70 في المئة من أسهم "سابك" Sabic (الشركة السعودية للصناعات الأساسية)، شركة البتروكيماويات التي بنت أحد أكبر مصانع احتجاز الكربون واستخدامه في العالم.
بالعودة إلى 2016، نجد أن "أرامكو" استحوذت على تقنية "كونفيرج" Converge (التقارب) كما تسمى، وهي عملية بتروكيماوية قادرة على تحويل ثاني أكسيد الكربون المحتجز إلى بوليولات polyols من الدرجة الصناعية. في المستطاع استخدام هذه المركبات الكيماوية لصنع طلاء للأدوات المنزلية وتعبئة المنتجات وتغليفها، كذلك المواد اللاصقة الاستهلاكية والصناعية. كذلك يُستفاد من المنتجات الناتجة منها في صناعتي السيارات والطب.
عبر تقنية "كونفيرج"، يمكن تشكيل بوليولات ذات قوة التصاق وشد كبيرتين في "ظروف تفاعل متواضعة"، ما يعني تنفيذ العملية بدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الغرفة مباشرةً عوض العمليات التي تلزمها طاقة عالية وتطلق انبعاثات مرتفعة، التي تنطوي عليها مجالات أخرى من صناعة البتروكيماويات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبفضل قوتها المتزايدة، أصبحت البوليولات أيضاً أكثر متانة، وتوفر خصائص لاصقة أفضل عند تحويلها إلى منتجات واستخدامها على أرض الواقع.
احتجاز الكربون أثناء التنقل
كذلك تعمل "أرامكو" على إيجاد حلول لاحتجاز الكربون وتخزينه ونقله في مجال سيارات الركاب والشاحنات. وسبق أن أثبتت أن في وسع المركبات أن تلتقط ثاني أكسيد الكربون بواسطة أنظمة العادم التي تشتمل عليها [بمعنى استخلاص ثاني أكسيد الكربون من مصدره بحيث لا يصل إلى الهواء أبداً]، ثم يصار إلى نقله بعد ذلك إلى مصانع إعادة التدوير لمعالجته وتحويله إلى مواد جديدة أو طاقة. تسمى هذه العملية "احتجاز الكربون المتنقل" (اختصاراً MCC).
صحيح أن انتشار هذه التكنولوجيا ما زال في مهده، بيد أن النتائج واعدة فعلاً. في نهاية 2019، قدمت الشركة عرضاً لشاحنة كانت قادرة على التقاط 40 في المئة من ثاني أكسيد الكربون من أنبوب العادم.
إعادة استخدام ثاني أكسيد الكربون لخفض الانبعاثات
في المستطاع أيضاً احتجاز الكربون وإعادة تدويره في مرحلة إنتاج الطاقة.
في معمل الغاز في الحوية بشرق المملكة العربية السعودية، تحتجز "أرامكو" ما يصل إلى 40 مليون قدم مكعبة قياسية من ثاني أكسيد الكربون يومياً، أي ما يكفي لملء 440 حوض سباحة بحجم أولمبي.
تنقل تلك الكمية من ثاني أكسيد الكربون بأنابيب تمتد على بعد 85 كيلومتراً شمالاً، إلى حقل النفط التابع لـ"أرامكو" في العثمانية. هناك، تُستخدم للمساعدة في الحفاظ على الضغط في الخزان وتحسين استخلاص النفط، ما يقلل بدوره من انبعاثات الكربون في عملية إنتاج النفط ويقلص تكاليف التشغيل.
الكربون في صناعة المشروبات
كذلك تشهد السعودية خطوات كبيرة في إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون خارج صناعة الطاقة.
وكحلقة من حلقات شراكة فريدة من نوعها، تعكف شركة "غالف كرايو للغازات الصناعية السعودية" Gulf Cryo Saudi على احتجاز وتنظيف الانبعاثات من غلايات شركة المشروبات السعودية "سيبكو" Sibco. في مرحلة لاحقة، يستفاد من ثاني أكسيد الكربون الناتج من فئة المشروبات في كربنة مشروبات "سيبكو" مع خفض انبعاثات الكربون في الوقت ذاته. يعاد تدوير حتى 96 طناً مترياً من ثاني أكسيد الكربون بهذه الطريقة يومياً.
تحديات مشاريع احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه
ولكن مع ذلك كله، ليست المشاريع القائمة على استخلاص ثاني أكسيد الكربون والاستفادة منه وتخزينه (CCUS) بمنأى عن التحديات.
بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، على الرغم من أنها بدأت الاستثمار في مشاريع استخلاص ثاني أكسيد الكربون والاستفادة منه وتخزينه في عام 2015، إلا أن هذه الصناعة ما زالت في مهدها نسبياً قياساً إلى الدول الأولى التي تبنّت هذا النهج من قبيل الولايات المتحدة الأميركية. ولكن الاستثمار المحدود فيها، يمكن أن يتغير في حال شهدت سوق المنتجات المصنوعة من تلك الغازات المعاد تدويرها نمواً كبيراً.
ربما لا تكون الزيادة في الاستثمار بعيدة جداً، نظراً إلى الاتجاه نحو الحلول الأكثر استدامة في المملكة كجزء من "المبادرة السعودية الخضراء". ويبدو جلياً أن ثمة فعلاً خريطة طريق ملموسة.
مبادرة شركات النفط والغاز بشأن المناخ، علماً أن مجموعة من شركات النفط الرائدة التي تنضوي فيها تهدف إلى إعداد هذه الصناعة العدة لجبه تغيّر المناخ، والتي تُعدّ "أرامكو" أحد أعضائها المؤسسين، أوصت في تقريرها لعام 2021 بضرورة تقديم دعم أكبر للقطاع الخاص من أجل إعادة تدوير الغازات المسببة للاحترار العالمي في السعودية.
قطاعات البتروكيماويات والتكرير والإسمنت والأسمدة وتوليد الطاقة الكهربائية، على وجه الخصوص، في وسعها أن تستخدم غازات الدفيئة المعاد تدويرها لتصنيع الوقود الاصطناعي بغرض تصديره إلى الخارج. يمكن أن يشمل جزء من هذه العملية بناء محطات في مختلف أنحاء المملكة، لا سيما في شرق البلد الذي يشهد نشاطاً صناعياً ثقيلاً، وحيث يمكن تخزين الانبعاثات وتحويلها إلى منتجات.
ولا ننسى أنه عبر زيادة التعاون مع البلاد المجاورة لها في المنطقة، يمكن للسعودية أيضاً نشر هذه التكنولوجيا المعمول بها حالياً إلى نطاقات أوسع، وتطوير تكنولوجيا جديدة وزيادة صادراتها المنخفضة الكربون.
خلال رئاستها لـ"مجموعة العشرين" G20 العام الماضي، دافعت المملكة العربية السعودية عن استراتيجيتها للاقتصاد الكربوني الدائري (نظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على الهدر والاستخدام المستمر للموارد) على المسرح العالمي، مؤكدة على الشعار الذي يصف المحاور الأربعة للكربون "الخفض وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير والإزالة". آنذاك، قال الملك سلمان بن عبد العزيز إن "حماية الكوكب أمر بالغ الأهمية. مع الزيادة في الانبعاثات الناتجة من النمو الاقتصادي، علينا أن نضطلع بدور الريادة في اتباع أساليب مستدامة وعملية وفاعلة قياساً إلى كلفتها في سبيل تحقيق أهداف مناخية طموحة".
الحق أن إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون مثال رائع على مبدأ الاقتصاد الدائري الذي تعكف السعودية على تطبيقه. توسعة نطاقه بدرجة كافية والعمل به إلى جانب كثير من المبادرات الخضراء الأخرى، ربما تساعد المملكة في تحقيق أهدافها المناخية الطموحة.
*المبادرة الخضراء السعودية نهج حكومي شامل في المملكة العربية السعودية لمكافحة تغيّر المناخ.
© The Independent