لم يبقَ إلا افتتاح الصفوف تحت الشجرة، حتى تكتمل مشهدية عودة التعليم في لبنان إلى القرون الوسطى، إذ بدأ بعض الأساتذة في مناطق الأطراف بالانتقال إلى مدارسهم على متن الأحصنة، بعد أن رفع الدعم بصورة تامة عن المحروقات في البلاد، لتصل صفيحة البنزين إلى 312 ألف ليرة (16 دولاراً، بحسب سعر صرف السوق السوداء)، ويصبح الحد الأدنى الرسمي للأجور مساوياً لصفيحتي بنزين.
هذه الوقائع، دفعت للتنبؤ بعام دراسي صعب وغير مستقر في لبنان على غرار السنوات الثلاث الماضية، إلى جانب وقف جميع أشكال الأنشطة الاقتصادية والحياتية.
رحلة فارس نحو المدرسة
تفصل قرية خربة داوود عن ثانوية الشيخ عياش الرسمية في عكار نحو 25 كيلومتراً، يقطعها الأستاذ رائد مرعب بصورة يومية من أجل الالتحاق بمركز تدريسه.
منذ أيام، تعذر على رائد ملء خزان الوقود لسيارته، فما كان منه إلا أن ركب فرسه، وتوجه إلى الثانوية لإحضار مسابقات الإكمال في مادة الفيزياء من أجل تصحيحها. يروي رائد أن المشوار كان مضنياً، تعبت خلاله "نجود" لأنه لم يُرحها في طريق العودة.
يتحدث رائد مرعب عن عشقه للخيل العربية، ومنذ 7 سنوات "حقق حلم الطفولة الذي كانت تحول إمكانات الأهل دون السماح له بتحقيقه"، بعد أن اقتنى فرساً، وتعلم ركوبها، واشترى مع إخوته ورفاقه أحصنة أصيلة، وراحوا يهتمون بها.
يدرك رائد أن الخيل لن تكون بديلاً متيسراً أو مكافئاً للسيارة، حتى إن تكلفة تربية الخيل أصبحت كبيرة في ظل سعر صرف الدولار المرتفع. يقدر الأستاذ تكلفة تغذية الحصان بـ600 ألف ليرة شهرياً كحد أدنى، أما في الحد المقبول فيزيد على مليون ليرة. وفي السابق كان يستهلك نحو جوالَي علف بـ40 ألف ليرة (33 دولاراً)، وجوال تبن، لتتراوح التكلفة بين 60 و70 ألف ليرة (45 دولاراً)، منوهاً بأن التكلفة تضاعفت 10 مرات من دون أن يحصل الحصان على الغذاء الكافي، ليصبح الحصان هزيلاً.
دفعت الأزمة الاقتصادية رائد للتفكير في بيع الفرس منذ شهرين تقريباً، وهو في المقابل "لن يبيعها لأي أحد لأنها خيل من فصيلة نادرة".
الأستاذ الثانوي عاجز
يعد رائد نموذجاً للأستاذ الثانوي الذي لن يتمكن من أداء واجباته التربوية بسبب عدم القدرة على تأمين المحروقات. ويشعر الأساتذة بأن أجورهم أصبحت هزيلة لدرجة "غير كافية للوصول إلى المدرسة"، فما بالك بتأمين الملابس لأبنائهم على أبواب الشتاء، أو إطعامهم أكلة مشبعة؟
يشير رائد إلى أن المسافة التي يقطعها من بيته إلى المدرسة هي نحو نصف ساعة بالسيارة، لذلك فهو بحاجة إلى نصف تنكة بنزين ذهاباً وإياباً، أي صفيحتا بنزين أسبوعياً، و8 شهرياً، أي إن تكلفة البنزين هي مليونان ونصف المليون شهرياً، أي "ما يساوي معاش الأستاذ الثانوي".
هذا، ولم يخض بعد في فاتورة اشتراك الكهرباء، والطعام، واللباس، وتكلفة التجهيزات التقنية، وإصلاح السيارة، مضيفاً، "الموظف أصبح غير قادر إلا على تأمين الحد الأدنى من معيشته. العائلات هجرت اللحم، والدجاج يأتي في أول الشهر".
البدائل متعثرة
يطالب رائد مرعب بمعاملة الأساتذة معاملة الضباط، فهم يقعون في الدرجة الثالثة من هرمية الإدارة العامة في لبنان، لذلك يفترض تأمين "بونات بنزين للأساتذة من أجل الوصول إلى مدارسهم". كما يفترض بوزارة التربية تعيين كل أستاذ في المركز القريب من مكان سكنه من أجل تخفيف أعباء ومصاريف التنقل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبدو الاقتراحات المختلفة متعثرة التطبيق في ظل الوضع العام في لبنان، فلا وجود للمال في ميزانية الدولة، ولا قدرة على الاستمرار في الدعم، كما لا توجد شبكة نقل عامة تؤمن وصول الطلاب والأساتذة والموظفين إلى أماكن عملهم بيسر وسهولة، لذلك فإن الإجراءات الفردية التي تتخذها كل مدرسة تختلف عن الأخرى، حيث تعددت الخطط التي قامت بها المدارس الخاصة، البعض منها قلص عدد أيام التعليم إلى أربعة أيام فقط بدلاً من خمسة، كما قامت بتأمين بدلات النقل من وإلى المدرسة لأساتذتها. وتعهدت مدارس أخرى بتأمين البنزين للمعلمين، وبدأت بهذه الخطوة مع أزمة شح المحروقات لتجنيب أساتذتها الانتظار الطويل في الطوابير. كما تولت شريحة أخرى تأمين أوتوبيسات للقيام بنقل الأساتذة إلى المدارس وفق خط سير محدد من أجل تخفيف تكلفة تأمين البنزين وبدلات النقل لعدد كبير من الأساتذة. وبين هذا وذاك، يقوم بعض الأساتذة بمجهودهم الخاص إما بنقل زملائه معه، أو شراء الدراجات الهوائية والنارية التي أصبحت رائجة داخل المدن.
العام الدراسي معلق
حتى اللحظة، لا يمكن الجزم بتاريخ لانطلاق العام الدراسي الرسمي الجديد، هذا ما يؤكده رئيس رابطة التعليم الثانوي، نزيه جباوي، الذي يتحدث عن مفاوضات دقيقة تخوضها هيئة التنسيق النقابية مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ووزير التربية عباس الحلبي.
يكشف جباوي عن تفاصيل العرض الذي تلقاه الأساتذة، ريثما يتم تصحيح الأجور. وتشمل الحزمة "نصف الأجر الشهري، ورفع بدل النقل إلى 60 ألفاً يومياً، و90 دولاراً من الجهات المانحة، تعطى للأساتذة الملاك، وكذلك الأساتذة المتعاقدين الذين يكملون النصاب، وتتناقص مع تناقص الساعات المنفذة".
ويلفت جباوي إلى أن أسعار البنزين والمحروقات عائق كبير أمام وصول الأساتذة إلى مدارسهم، لذلك تطالب الرابطة بسلم متحرك لتحديد بدل النقل اليومي للأساتذة، بحيث يرتفع في حال ارتفاع أسعار البنزين. ويشير إلى أن "الرابطة سمعت وعداً بتأمين أوتوبيسات لنقل الطلاب والأساتذة إلى المدارس، ولكن ككل المشاريع في لبنان، يتأخر تنفيذها، ويبدو أن هذا الطرح ما زال في دائرة الفكرة".
ومن أجل تأمين انطلاقة جيدة للعام الدراسي، تباحثت الرابطة مع مديرية التعليم الثانوي في وزارة التربية بمسألة البت بطلبات نقل الأساتذة، بحيث يقوم كل أستاذ بالتعليم في المدرسة القريبة من مكان إقامته.
كما أن هناك مطالبة بإعطاء الحرية للمدارس في تحديد أيام التعليم الأسبوعية، والتي حددت بأربعة أيام، بحيث يمكن أن تتفق المدارس في منطقة من المناطق على أيام محددة للسماح للأساتذة بتنفيذ ساعاتهم بأقل تكلفة.
في المقابل، يعتقد الأستاذ نزيه جباوي، أن "العودة إلى المدارس باتت ضرورية، لأن نحو 80 ألف طالب في التعليم الثانوي موجودون خارج مقاعدهم الدراسية"، كما يتخوف أن تشهد الثانويات الرسمية التي أثبتت كفاءتها موجة نزوح مضادة إلى المدارس الخاصة في حال استمرار الإضراب والتعطيل فترات طويلة، منوهاً بأن العودة لن تكون بقرار أحادي من الرابطة، وإنما سيتم مزج آراء الأساتذة من خلال استبيان، يتم إطلاقه خلال الأيام القليلة المقبلة. كما يتحدث جباوي عن هم إضافي للأساتذة لناحية تقديمات تعاونية موظفي الدولة، حيث إن هناك اتجاهاً لرفع التقديمات الاستشفائية والصحية من خلال رفع ميزانية تعاونية موظفي الدولة من 850 مليار ليرة، إلى ألف مليار ليرة.
ويدرك الأساتذة أن المبلغ الإضافي لن يشكل نقلة كبيرة في التقديمات التي يحصلون عليها في ظل سعر صرف دولار يفوق 20 ألف ليرة، إلا أن المبلغ الإضافي يخفف العبء جزئياً عنهم.
أين المتعاقدون من الحلول؟
لا تتوقف العقبات عند شريحة الموظفين الملاك، وإنما تزداد لدى الأساتذة المتعاقدين، فالبعض منهم يتقاضى 20 ألف ليرة (دولار بحسب سعر صرف السوق السوداء) كبدل تعليم ساعة التعاقد، فيما يبلغ ثمن السرفيس داخل المدينة ذهاباً وإياباً نحو 60 ألف ليرة لبنانية. وسيحول هذا الواقع في حال استمراره دون التحاق عدد من المتعاقدين بمراكز عملهم السابقة.