على طول تاريخه السياسي، خلقت الأحداث في السودان تأثيراً في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي والحياة العامة، وظلت تنعكس آثارها على ما يحدث اليوم، فلم تحظَ هذه الدولة سوى بفترات قصيرة من الاستقرار دون أن تهدأ آلة الحرب المشتعلة في أطرافه نهائياً. ووسط حالات العنف السياسي تفاقمت الآثار الاقتصادية والاجتماعية، والفوضى الإدارية، وتفشَّى الفساد، كما تجلت الأزمة السياسية السودانية في الانقلابات العسكرية والاحتكاك السياسي بين المدنيين والعسكريين وعدم الوصول إلى حالة توافق، وهذا مرده إلى جذور ارتبطت بفشل النخبة منذ فترة ما بعد الاستقلال في معالجة الخلافات السياسية، فضلاً عن قصور الحلول العسكرية التي تختزل في اللجوء للانقلاب العسكري.
أزمة الهوية
ظلت أزمة الهوية مسيطرة على الوعي الجمعي السوداني، ويتم التعبير عنها أحياناً بشعور الأقليات القومية في الجنوب والشرق والغرب بتلك الأزمة، بينما الشمال والوسط النيلي يعيش في مأمن من هذا الجدل القائم، إذ إنه يشعر بهوية ثقافية متميزة. وانعكاس ذلك قائم منذ عقود، مثلاً ما كان بين النظام السابق من الإسلاميين وغيرهم، كما تجلى حالياً بين العروبيين المتمثلين في حزب البعث السوداني، التابع لحزب البعث العربي الاشتراكي، وبين الأفريقانيين الذين أعلت من صوتهم الثورة وتركيز الضوء على هذا الصراع وتضخيمه كل حسب غرضه.
عبر عن ذلك الجدل القديم المتجدد رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد المحجوب في محاضرته "حركة المثقفين السودانيين إلى أين؟" التي ألقاها في أربعينيات القرن الماضي عندما كان عضواً في الجمعية التشريعية. فقد أكد أن الثقافة السودانية يجب أن تكون مزيجاً من الموروث العربي الإسلامي والفكر الأوروبي، وقد كانت هذه النزعة لإخراج الثقافة السودانية من جلباب الثقافة المصرية، وفي رأي البعض أن المحجوب لم يُشر إلى الثقافة الأفريقية لأنها في تلك الفترة كانت تمثل للنخبة المثقفة نوعاً من الدونية. وبعد نهوض حركات التحرر الأفريقية في خمسينيات القرن الماضي تمخضت بعد ذلك فكرة "مدرسة الغابة والصحراء" في 1962 التي أسسها في جامعة الخرطوم الشعراء محمد عبدالحي، ومحمد المكي إبراهيم، ويوسف عيدابي. وتقوم المدرسة على انتماء الشعر السوداني إلى التمازج العربي الأفريقي "الذي يرمز له بالغابة رمز الأفرقانية والصحراء رمز العروبة" تجسيداً للواقع الجغرافي السوداني.
يرى بعض المثقفين السودانيين أن "مدرسة الغابة والصحراء" عالجت نزوع من قبلهم نحو الهوية "العربوإسلامية"، باعترافها بالنمط الأفريقي، ومزجت بين الحضارة النوبية الأفريقية الوثنية، والعربية الإسلامية. وبعد ترسيخ النظام السابق منذ مجيئه للهوية العربية الإسلامية التي تمثلت في حروبها المتطرفة ضد الجنوبيين الأفارقة الوثنيين والمسيحيين باسم الدين، وضد إقليم دارفور الأفريقي بدافع الاستعلاء الإثني الثقافي، كل ذلك انعكس على فترة ما بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 بضرورة بعث "السودانوية" التي تمثل صياغة لمفهوم الوطنية يتمحور حول المضمون العرقي للسودان ورفض كل مضمون عربي إسلامي، وظهر هذا في ملامح الحراك الثوري وما بعده من تسميات تعود إلى عهد الحضارة النوبية.
أزمة بناء الدولة
رسخ الاستعمار البريطاني نظاماً إدارياً اعتمد على استغلال السودان الأوسط اقتصادياً، بالتالي ظهرت ملامح التنمية في الوسط دون الأطراف، وبقيت إلى اليوم. فبعد الاستقلال لم يغير السودانيون السياسات والبرامج التنموية التي تركها الاستعمار مما ولد عدم إدراك لمقومات الدولة المستقلة ومواردها.
في كتابه "تناقض السودانين: اتفاقية السلام الشاملة والطريق إلى التقسيم"، ناقش وزير الخارجية السوداني الأسبق منصور خالد، الفشل المتراكم للدولة السودانية وقصر نظر النخبة السياسية وعقليتها التمييزية المتحيزة منذ الاستقلال، إذ كان يعتقد أنها هي التي قادت مع وصول الإسلاميين للحكم وفرض برامج الأسلمة القسرية والتطرف ضد المواطنين والتمكين السياسي والاقتصادي للنخبة الحاكمة على نحو شامل، إلى نتائجها المنطقية: تقسيم البلاد وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد شعوب الهامش وتعميق حدة الانقسامات المجتمعية على أسس إثنية وجهوية وثقافية والانهيار الاقتصادي والإفقار الشامل. وعالج ذلك من قبل في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل". وقد كان خالد مستشاراً لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، لحظة التوصل لاتفاق السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005، فاختصر فشل الدولة السودانية بقوله "سودان 1956 (عام الاستقلال) لم يتبدل كثيراً عن سودان 1965 (عام مؤتمر المائدة المستديرة)، وسودان 1983 عام إلغاء النميري للاتفاقية بتحريض ممن تعزز بهم من معارضيه السابقين من الإسلاميين والحزبيين الآخرين الذين جاءت بهم المصالحة، لا يختلف كثيراً عن سودان مطلع القرن الحادي والعشرين، عام اتفاقية السلام الشامل".
أزمة الدستور
عانت فترة ما قبل الاستقلال الخلاف حول نمط الحكم في السودان، هل يكون ديمقراطية نيابية على النمط البريطاني أم رئاسية على النمط الأميركي؟ وبعد الاستقلال تم تعديل دستور الفترة الانتقالية للعمل به مؤقتاً لحين إقرار دستور جديد. ربما يقارب ذلك التاريخ ما يحدث الآن في حكومة الفترة الانتقالية، إذ توافق الدستور المؤقت آنذاك على تكوين مجلس سيادة ليكون السلطة الدستورية العليا وتؤول إليه قيادة الجيش.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ظل الجدل السياسي حول الدستور قائماً في عهود ما بعد الاستقلال، إذ سيطرت فكرة النظام الفيدرالي على النقاش السياسي والثقافي للاعتقاد أنه الأنسب للسودان بتنوعه الإثني والجغرافي والسياسي، ونوقش في ظل الحكومات العسكرية والديمقراطية، فمثلاً برز في ظل حكومة 1958 العسكرية وبعد قيام ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964. وتمسك به الجنوبيون بشكل خاص لأنه كان أحد الوعود المبذولة لهم في إعلان الاستقلال بأن يكون النظام الفيدرالي في الجنوب، بالإضافة إلى الشيوعيين الذين رأوا مناكفة الإسلاميين الرافضين له والمتمسكين بالدستور الإسلامي ورفض الفيدرالية والنظام العلماني في آنٍ واحدٍ، وتفضيلهم النظام المركزي بأن يكون نظاماً رئاسياً.
وفي ما يتعلق بصياغة القوانين فقد قال عبدالله علي إبراهيم، أستاذ التاريخ الأفريقي في الجامعات الأميركية، في كتابه "الشريعة والحداثة مبحث في جدل الأصل والعصر"، إن "البريطانيين فور استيلائهم على السودان بدأوا في تأسيس نظام حكم لتدبير النظام العدلي. وقاد هذا في النهاية إلى نظام ثنائي للقضاء، يشتمل على قسم للقانون المدني وآخر للقضاء الشرعي. وظلت هذه الثنائية حتى أوائل الثمانينيات حين أجبر الرئيس جعفر النميري القضائية على توحيد نفسها وتخطي ثنائيتها".
وأضاف، "جاء البريطانيون بعد أن خلصوا على ضوء تجربتهم في الهند بأقليتها المسلمة، حيث كانت الشريعة هي قانون البلاد في ظل حكم المغول قبل الحكم البريطاني إلى أن القانون الإسلامي لا يصلح لدولة حديثة. وقد انقضى وقت كثير وجدل خصب قبل أن يستقر هذا المبدأ الإنجليزي حول الشريعة في الهند ذاتها".
أزمة المركز والهامش
ظهر تعبير المناطق المهمشة في أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وصاغه زعيمها جون قرنق في خطابه السياسي. وتعد سيطرة المركز على الأطراف في السودان سبباً في عدم التكافؤ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولعل حراك الجنوبيين المبكر لإزالة هذا التهميش ووصولهم لانفصال إقليمهم إلى دولة مستقلة عام 2011 هو دليل على فشل الدولة السودانية في إدارة الوحدة، وأخذ زمناً طويلاً حتى حلت مشكلتهم بالطريقة التي ارتضوها عبر الاستفتاء، وما ساعدهم على ذلك هو وجودهم منذ البداية في البرلمان السوداني فترة ما بعد الاستقلال، وحصول نخبتهم على التعليم في الغرب. وعلى الرغم من وجود ممثلين لمناطق أخرى مثل البجا والنيل الأزرق وجنوب كردفان في البرلمان السوداني، فإن أهل هذه المناطق لم يصلوا إلى ما وصل إليه الجنوبيون بسبب تحويل حكومة الإنقاذ الحرب في الجنوب إلى حرب دينية وإحداثها زخماً سياسياً داخلياً وخارجياً.
كان قرنق يرى أن النخبة السياسية في المركز تعميها أنانيتها عن رؤية الأسباب الجذرية لمشاكل السودان. ولخص مثقفون أن أزمة المركز والهامش هي "وضعية تاريخية متكاملة" لم تنجُ منها كل النظم السياسية السابقة عسكرية أو ديمقراطية، ويؤكدون أنه لو تم استفتاء شعبي في دارفور أو منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق أو منطقة البجا شرق السودان، لصوت أبناء هذه المناطق لصالح الانفصال.
الأزمة الاقتصادية
تعد تجربة السودان الاقتصادية إحدى تجارب العالم الثالث الذي فشل منذ الخمسينيات والستينيات في وضع إطار مميز للتنمية، ظلت سمته البارزة هي سوء الإدارة وتفشِّي الفساد والمحسوبية وغياب الشفافية والديمقراطية في بلد غني بالموارد الطبيعية. وتبعت الظروف الداخلية، المتغيرات الدولية إثر بروز الأزمات الاقتصادية العالمية خلال الثمانينيات، وحدوث الكساد العالمي وتراكم الديون الخارجية، وتزامن ذلك مع حدوث أزمة الركود الاقتصادي التضخمي الطويل، وانفجار حرب الجنوب وأزمة الجفاف والتصحر التي ضربت منطقة القرن الأفريقي وحدوث المجاعة. ثم بعد ذلك، فرضت العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان منذ التسعينيات بعد انقلاب العسكريين والإسلاميين بقيادة عمر البشير وحسن الترابي في 30 يونيو (حزيران) عام 1989، وتدهورت إثرها علاقات السودان مع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.
ذكر الاقتصادي ووزير المالية الأسبق عبدالوهاب عثمان في كتابه "منهجية الإصلاح الاقتصادي في السودان"، أنه في 1992، ووسط تدهور عقد الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات، كانت هناك محاولات للإصلاح من خلال برنامج "الاستراتيجية الشاملة"، و"برنامج التحرير الاقتصادي" المتمثلة في التركيز على الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، ولكن شابها عدم الاهتمام بالتكييف الاقتصادي، ومحاولة تحريك الاقتصاد على حساب الأداء في القطاعين المالي والنقدي، ولذلك تعذر تحقيق أهداف البرنامجين، إذ تراجع الاستقرار في نظام سعر الصرف، واستفحل اختلال توازن الاقتصاد الكلي والتدهور في أداء القطاعين المالي والنقدي، فتعاظمت الضغوط على الطلب الكلي، وارتفعت معدلات التضخم. ومع التراجع في أداء العرض الكلي استفحل اختلال الاستقرار في الاقتصاد الوطني.
الآن، وبعد قيام الثورة، أصبحت هناك حاجة لرؤية جديدة للتنمية، مدعومة بتسهيلات المجتمع الدولي في إعفاء الديون وتقديم القروض، وغيرها، ولكن هذه التسهيلات تظل بحاجة إلى أرضية اقتصادية راسخة لم تتوفر في السودان بسبب النزاعات، ما أحدث تشوهات هيكلية في الاقتصاد أدت إلى اختلال التوازن في مؤشرات الاقتصاد الكلي، وانعكس على مجمل أداء القطاعات الإنتاجية والخدمية، فتضافرت مع عدم الاستقرار السياسي، وأدت إلى تراجع معدلات الناتج المحلي الإجمالي، إذ لم يستفد السودان من موارده الطبيعية والبشرية واستغلالها في النمو الاقتصادي.