Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا ينتهي طريق الديمقراطية بانقلاب في السودان؟

يعتقد العسكريون أنهم الأكثر حفاظاً على الدولة وحدودها وصراعات الأحزاب تغريهم للتدخل

على مدار عمر السودان المستقل ظلت دائرة التبادل بين الحكم العسكري والمدني تتكرر بنفس الملامح والسيناريو (أ ف ب)

في كل مرة تطيح ثورة أو انتفاضة شعبية سودانية حكماً عسكرياً، يظن أنها نهاية المطاف للانقلابات العسكرية، والبداية لاستدامة الديمقراطية والحكم المدني في البلاد، لكن سرعان ما تدور الدائرة من جديد، ويطاح الحكم المدني البرلماني مرة تلو الأخرى، فما الذي يقف وراء الاضطراب التاريخي الذي اتسمت به مسيرة الديمقراطية المدنية في هذا البلد، وقدر الموت المبكر الذي لازمها في مواجهة الانقلابات العسكرية؟ ثورة تطيح الحكم العسكري، ثم يقبرها انقلاب.

منذ ميلاد دولة السودان المستقلة في 1956، وطوال فترة 65 عاماً، كان للحكم العسكري فيها نصيب الأسد بـ52 عاماً، مقابل 12 عاماً فقط للحكم المدني الديمقراطي البرلماني، حتى كادت تترسخ فكرة عامة عن أن الشعب السوداني، "ظل دائماً قادراً على استعادة الديمقراطية والحريات، لكنه لم يتمكن أبداً من قطف ثمارها".

حول هذه الظاهرة المتكررة في التاريخ السياسي السوداني على نحو دائري مستمر، استطلعت "اندبندنت عربية"، آراء متخصصين وسياسيين وأكاديميين ومعاصرين لتلك التجارب التاريخية.

الهشاشة الديمقراطية

يرجع البروفيسور عبدالرحمن أبو خريس، أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، أهم أسباب تلك الظاهرة إلى عاملين، الأول هو "الاعتقاد المترسخ لدى العسكريين بأنهم الأقدر على الحفاظ على هيبة وسيادة الدولة وحدودها، والأكثر إدراكاً للأبعاد الاستراتيجية من المدنيين، أما الثاني فيرتبط بضعف الأحزاب السياسية وعدم قدرتها على تحمل تبعات العملية الديمقراطية والحريات، إضافة إلى الصراعات الحزبية ومآلاتها السالبة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ما يغري بتدخل العسكريين".

ويعزو أبو خريس، ضعف الأحزاب إلى "هشاشة البنية التكوينية الديمقراطية في السودان، وعدم ترسخها ضمن المكون الثقافي المجتمعي، وهي الخلفية التي تأسست عليها الأحزاب السياسية، ما أضعف دورها وتأثيرها، وهو ما يتطلب ثورة سياسية تصحيحية بداخلها".

ويستطرد، "ضعف الأحزاب السياسية جعلها تستنجد في كثير من اللحظات الحرجة بالعسكريين وتستدعي الانقلابات، إذ لم تتوقف مساعيها لاختراق القوات المسلحة، والتخفي وراءها، فانقلاب الجنرال إبراهيم عبود مثلاً كان وراءه حزب الأمة، وانقلاب جعفر النميري يعتقد أن خلفه الحزب الشيوعي أو اليسار بصفة عامة، كما جاء حزب الجبهة الإسلامية بانقلاب البشير في 30 يونيو 1989، هذه التحالفات السرية بين الأحزاب والجيش تقوم أساساً على تصفية حسابات سياسية حزبية في خضم الصراع المحتدم بينها".

ويضيف أبو خريس، "الآن، أصبح تأثير البيئة الخارجية المتمثل في المجتمع الدولي وآلياته ومنظماته، من العوامل المهمة ويتعاظم دوره باطراد في الحفاظ على الحكم المدني والديمقراطية، فبعد أن كان في الماضي يغض الطرف عن الانقلابات العسكرية، أصبح الآن رافضاً تماماً لها باعتبارها تقويضاً للحكم المدني والاستقرار السياسي والديمقراطية، ليس ذلك فحسب، بل تكفل أيضاً بحمايتها من أي تغول عسكري عليها".

بذرة الانقلابات

من جانبه، حمل البروفيسور علي محمد شمو، شاهد العصر، الذي عمل وزيراً في أكثر من ثلاث حقب سياسية، مسؤولية غرس بذرة الانقلابات العسكرية إلى عبدالله خليل (حزب أمة)، آخر رئيس وزراء في فترة الحكم الوطني الأول، باعتباره "أول من أدخل أدب الانقلابات، فبدلاً من الانتظار إلى حين موعد الاستحقاق الانتخابي البرلماني، ونتيجة للصراع السياسي الحزبي، تعجل بتسليم السلطة المدنية إلى الجنرال إبراهيم عبود، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، ليكسر بذلك دورة التداول السلمي للسلطة في السودان، ويجره إلى الانزلاق نحو دوامة التأرجح بين المدنية والعسكرية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووصف شمو، ذلك السلوك السياسي، بأنه كان "المنعطف التاريخي الأخطر الذي أضاع على السودان فرصة استدامة الديمقراطية، كأول بادرة يتنازل فيها المدنيون عن السلطة طوعاً، لصالح العسكريين، ما شكل لحظة قلبت تاريخ السودان، وعطلت مسيرته باتجاه التبادل السلمي للسلطة، لا سيما أن الجيش لم تكن له أي تطلعات سياسية بالسلطة وقتها".

يضيف شمو، "على الرغم من أن الأنظمة العسكرية ظلت تستعين بالكفاءات من التكنوقراط والخبرات، ما مكنها من تحقيق قدر جيد من الاستقرار والتنمية، وإطالة أمد عمرها في الحكم، فإن ذلك كان خصماً على الديمقراطية والحكم المدني والحريات العامة، من خلال استخدام سلطة القبضة الحديدية، لذلك أصبحت الانقلابات منبوذة عالمياً".

ودعا إلى ضرورة إجراء إصلاح سياسي في مسيرة الأحزاب السياسية، مقترحاً اندماجها في كيان موحد، على أن لا تزيد على ثلاثة أو أربعة أحزاب، منتقداً قانون الأحزاب الحالي الذي سمح بقيام أكثر من مئة حزب بلا قواعد حقيقية.

ثنائيات وانقسام

في السياق ذاته، يبدي عبدالرسول النور إسماعيل، القيادي السابق بحزب الأمة القومي، والباحث بالتاريخ السياسي السوداني، أسفه لظاهرة الموت المبكر للحكم المدني الديمقراطي بالسودان، ما أثر سلباً في كل مسيرة البلاد، نتيجة تقديم الولاء العشائري والجهوي على الوطن، إلى جانب الثنائيات السياسية والقبلية المتقاطبة التي قسمت وجدان وولاء أهل السودان.

يضيف إسماعيل، "لقد حكم الجنرالات السودان ما يزيد على نصف قرن من الزمان، بينما حكم التوافق المدني العسكري في فترات الانتقال ما يزيد على ثلاثة أعوام، وما تبقى من فترات كان من نصيب الحكم المدني الديمقراطي التعددي، وهي فترات على قصرها شهدت قيام العديد من الحكومات الائتلافية والوفاقية، لكن جميعها لم تستطع كتابة دستور دائم يؤسس لوطن حر ديمقراطي يسع الجميع، ويحسم القضايا الأساسية".

ويرجع الباحث في التاريخ السياسي جزءاً من الفشل في الحفاظ على الديمقراطية إلى "الضعف المؤسسي للأحزاب وغياب برامج الإجماع الوطني، ما جعل الكثيرين من النخب ينحازون إلى النظم العسكرية والشمولية اختصاراً للطريق، فضلاً عن أن ميزان القوة وأذرع الدولة الفاعلة، ليست دائماً في صالحها، وهي الأكثر تنظيماً".

يردف، "طبيعة تكوين الأحزاب الجماهيرية بالسودان هي عبارة عن تحالف جماعات دينية وزعماء عشائر وطرق صوفية تقودهم نخب مثقفة، وتتعمق الانقسامات والانشقاقات بداخلها، وتميل غالباً إلى مهادنة الأنظمة العسكرية والتعايش معها، بينما الشباب والطلاب والكوادر الوسيطة دائماً هم من يتصدون لها، مع القليل من قيادات الصف الأول"، مشيراً إلى أن من المفارقات العجيبة، أن الحكم المدني الديمقراطي عندنا يطيحه العسكريون، بينما الحكومات العسكرية تسقطها الثورات الشعبية، بانحياز من العسكريين (الجيش) نفسه إلى مطالب الشارع.

فجوة وانفصام

من جانبه، يري البروفيسور عثمان الزبير، أستاذ علم الإدارة الحكومية بالجامعات السودانية، أن "اتساع الفجوة بين النخب الحاكمة والجماهير هو إحدى السمات السلبية، ومكمن خلل الديمقراطية بالدول النامية، ما أدى إلى حالة من الانفصام بين الأنظمة الحزبية والمجتمع، نتيجة تركيز حكوماتها على مؤسسات الدولة الرسمية، وإهمالها الكامل للمجتمع العريض".

ويدعو الزبير إلى ضرورة التشخيص الدقيق للحالة السياسية السودانية، لإيجاد مقاربة تجسر تلك الفجوة، بما يعزز دور ومشاركة المجتمع المدني والطبقة المستنيرة، وتبني الأحزاب، خطاباً سياسياً أقرب إلى طموحات وتطلعات ومصالح الشعب.

يتابع، "لتحقيق استدامة التداول السلمي للسلطة والنظام المدني الديمقراطي، لا بد أولاً من إنجاز استقرار الدولة، وذلك لن يتحقق إلا عبر الجيش والخدمة المدنية، ومنظمات المجتمع المدني، باعتبارها هي التي تحافظ على تماسك الدولة لا الأحزاب السياسية، التي بدأ دورها يتآكل حتى في الغرب الديمقراطي، بعكس ما يحدث في الدول النامية".

الدوامة التاريخية

على مدار عمر الدولة السودانية المستقلة، ظلت دائرة التبادل بين الحكم العسكري والمدني، تتكرر بنفس الملامح والسيناريو، لكن بفترات زمنية ظلت دائماً لصالح الحكم العسكري، فمنذ انتخاب أول حكومة وطنية في يناير (كانون الثاني) 1954، لم تستمر أكثر من أربع سنوات، حتى تسلم الجنرال إبراهيم عبود مقاليد الحكم عسكري في نوفمبر 1958، الذي أقصى الأحزاب، واستمر حكمه ست سنوات، لتطيحه ثورة شعبية في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، ثم أعقبتها فترة حكم ديمقراطي حزبي برلماني استمر أربع سنوات فقط، قبل أن يطيحه انقلاب جعفر نميري في مايو (أيار) 1969، الذي استمر حاكماً فيما ما عرف "بفترة مايو"، مدة 16 عاماً، حتي أقصته عن الحكم انتفاضة رجب بثورة شعبية ثانية في أبريل (نيسان) 1985، لتعود الأحزاب مرة أخرى في فترة حكم ديمقراطية ثالثة، لم تكد تبلغ عامها الرابع، حتى انقض عليها الجنرال البشير في انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، الذي استمر ثلاثين عاماً، ليطاح به أخيراً بثورة ديسمبر 2019.

وتشكلت بعد الثورة سلطة انتقالية قامت على أساس شراكة انتقالية، تضم مدنيين وعسكريين، بناءً على اتفاق سياسي (الوثيقة الدستورية)، وقعت في أغسطس (آب) 2019 بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، مهندسة تنظيم وقيادة الاحتجاجات والتظاهرات التي أطاحت نظام الرئيس المعزول عمر البشير.

لكن واجهت قوى الحرية والتغيير انقساماً وخلافات، بلغت أوجها في الثامن من سبتمبر (أيلول) الماضي، عندما وقعت قوى سياسية وبعض الحركات مسلحة إعلاناً سياسياً يهدف إلى وحدة قوى الحرية والتغيير وقضايا الانتقال وبناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية، وفي المقابل وقعت مكونات أخرى كانت بداخلها ما سمي الميثاق الوطني لوحدة قوى إعلان "الحرية والتغيير" تحت اسم (منصة التأسيس)، في الثاني من أكتوبر، وقعت عليه عدد من الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا وآخرين.

وبعد مضي أكثر من شهر على انفجار خلافات الشراكة بين المكونين العسكري والمدني داخل مجلس السيادة، وإثر تداعيات المحاولة الانقلابية، وتصدعات قوى الحرية والتغيير بانسلاخ مجموعة ميثاق التوافق الوطني، بلغت الأزمة ذروة التصعيد بين الجانبين تجلت في تظاهرات سجال الشوارع السياسية، وظلت الأزمة تتصاعد من دون أي بوادر للانفراج، وقبل أن تثمر عدة دعوات ومناشدات للحوار دولية وإقليمية ومحلية، أعلن الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، يوم الاثنين 25 أكتوبر، حال الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء تجميد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية، وعلى رأسها المواد المتعلقة بالشراكة مع قوى الحرية والتغيير، معلناً أن تلك الإجراءات تستهدف تصحيح مسيرة الفترة الانتقالية والتزامه بتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، الوصول إلى الانتخابات العامة في 2023، في الوقت الذي اعتبر فيه شريكه الآخر، "قوى إعلان الحرية والتغيير" أن ما قام به هو في حقيقته انقلاب عسكري على الحكومة المدنية للفترة الانتقالية ومسيرة التحول الديمقراطي.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير