حين تقطع شارع السلطان قابوس في مسقط العاصمة، عليك أن تسير مسافة 175 كلم لتجتاز الشريط الساحلي الممتد بين ولاية راس الخد جنوباً حتى ولاية السيب شمالاً، تلك المدينة المتنوعة المطلة على خليج عمان تقع بيوتاتها وشوارعها بل وجميع معالمها بين البحر والجبل، حيث تطل على ساحل بحر عمان بمياهه العميقة، تطوّقها سلسلة جبال الحِجر التي تشرف على كل أجزاء المدينة الغافية على الساحل الهادئ، الذي قد تبدد صمته وسكونه في لحظات الأعاصير التي تصله من بحر العرب في الجنوب جهة صلالة.
مسقط التاريخ... ساحل وجبل
ينتابك شعور بالفخر وأنت تطأ مدينة تاريخية وعاصمة عربية تتطلع إلى المستقبل، محافظة على تاريخها وإرثها الثري، لكنها اليوم تضع الماضي خزيناً ومعيناً لها من أجل المستقبل الذي يؤرق الجميع كي يصلوا إليه بخطوات عجلى، كل شي في ساحلها يعود إلى التاريخ وقصص فولكلورية كُتبت في مدن "دارسيت وميناء الفحل ورأس الحمراء والقرم والخوير والسيب والحمرية والوادي الكبير والوطية والعذيبة والغبرة وبوشر والعامرات وقريات والخوص والمعبيلة"، أرض سبخة تحولت الى جنان ومدن حدائق، محاطة بالصخور المرجانية وخلجان "بر الجصة".
في مسقط تلمس أن الحداثة آتية. تراها في معالم مدنها التي يكسوها الرخام الأبيض، في دار الأوبرا الواسعة التي يفخر العمانيون أنهم حققوا حلم سلطانهم قابوس بن سعيد بن تيمور، الذي رحل قبل عام، بعد نصف قرن من الحكم (1970-2020) ليترك السلطنة تنعم بالإصغاء إلى نغمات العود والسمفونية في ذلك المبنى الرخامي الباذخ.
رؤية 2040... حدقوا بوجه المستقبل
يلخّص السلطان هيثم بن طارق رؤية عمان للأعوام حتى 2040 بأنها "بوابة السلطنة لعبور التحديات ومواكبة المتغيرات الإقليمية والعالمية، واستثمار الفرص المتاحة وتوليد الجديد منها، من أجل تعزيز التنافسية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي وتحفيز النمو والثقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في محافظات السلطنة كافة". تلك الأولويات أكدها السلطان بقوله "كانت نصب أعيننا إعادة تشكيل العلاقة والأدوار بين القطاعين الحكومي والخاص، ومؤسسات المجتمع المدني، وضمان إدارة اقتصادية فاعلة واقتصاد عماني متطور ومتنوع ومستدام، وتوزيع عادل لمقدرات التنمية بين المحافظات، وحماية مواردنا الطبيعية، وبيئتنا المتفردة، والانطلاق من ثوابت المواطنة والهوية العمانية الأصيلة لتحديث منظومة التعليم ودعم البحث العلمي والابتكار وتطوير الأنظمة والخدمات الصحية، ومكونات الرفاه المجتمعي وخدماته الأساسية لجميع فئات المجتمع وشرائحه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحديات الرؤية المقبلة
لم يكُن إعداد الرؤية هيّناً بل مر بمراحل هدفها الحداثة والنمو الاقتصادي بتوافق مجتمعي بعد استيعاب الواقع الاقتصادي والاجتماعي، للوصول إلى المستقبل بخطوات تضع الحوكمة ومواضيعها ودراسة الأولويات الوطنية أساساً لتنفيذها، والذي يعجل في ذلك ما تلمسه من إدارات شابة متعلمة تقود ذلك المشروع الوطني العماني، تحث خطى اللحاق بالمستقبل مع مراعاة للخصوصية البيئية والتراثية، كما يؤكد ذلك هيثم محمد الغساني، مدير عام السياحة في عمان الذي شدد لنا على عزم بلاده "أن يبدأ المستقبل الآن. إنه الشعور بالتحدي الذي يتحرك في نفوس العمانيين، وحث الخطى نحو المكانة المرموقة للسلطنة وأبناء وبنات البلد".
أما الأولويات، فباتت منهاج عمل الوزارات كافة بهدف الفهم والأداء المنسجم بين ما هو حكومي وشعبي لجعلها أقرب للواقع، ويقول عنها الغساني "حرصت الرؤية على الوصول إلى الأهداف الوطنية الرئيسة التي تشمل التعليم والبحث العلمي والصحة والمواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية والرفاه والحماية الاجتماعية والقيادة والإدارة الاقتصادية والتنوع الاقتصادي والاستدامة المالية وسوق العمل والقطاع الخاص والاستثمار والتعاون الدولي وتنمية المحافظات والمدن المستدامة والبيئة والموارد الطبيعية والتشريع والقضاء والرقابة، وأخيراً حوكمة الجهاز الإداري للدولة والموارد والمشاريع".
"تحت المجهر"
استجابة لهذه الرؤية، أُطلق مشروع عنوانه "عمان تحت المجهر" بمبادرة ناشطة بيئية عمانية شابة هي ميساء الهوتي، التي تمكّنت من التعريف بأهم البيئات الصالحة التي تجذب الزوار والمستثمرين ليجدوا مجتمعاً مرحّباً بخزائن عمان البيئية والطبيعية تقطع الجبال والسهول بين مسقط وصلالة وظفار للاطلاع على أهم المعالم والوجهات في بلدها.
وتقول "بدأت الفكرة عام 2014 لتوثيق الحياة الفطرية والبيئية في السلطنة "عمان إنفوكس" لحماية وصون البيئة العمانية ولتنشيط السياحة الداخلية والخارجية لزيارة أماكن لم تُكتشف بعد في البلاد وهي النسخة الثالثة من مشروع عمان تحت المجهر".
لم تنسَ الهوتي وهي تدعو الفرق تلو الأخرى إلى زيارة بلدها أن توثّق شواطئ عمان بالتعاون مع قنوات عالمية وبدعم الجهات الحكومية المعنية والمؤسسات غير الربحية الراعية للمشروع، إذ تمكّنت من توثيق 12 بيئة متنوعة العوالم والتضاريس في الجبال والوديان والسهول الخضراء وراحت إلى محميات الإبل والنمور ومزارع اللبان، وقلاع حماية القوافل ومن أبرزها "سمهرم" وهي متواصلة في جولتها الثالثة لمشروع "عمان تحت المجهر" منذ مارس (آذار) الماضي حتى الآن بهدف تعزيز مكانة السلطنة ووضعها على خريطة السياحة الدولية تماشياً مع رؤية عمان 2040 الواعدة.
خفايا عمان في ظفار
في هذه الجولة لاكتشاف خفايا عمان وعوالمها، كان لا بد من زيارة صلالة التي أمضينا فيها وقتاً بين جبال ظفار وكهوفها وشلالاتها وعوالمها التي لا يُسمح بالسكن فيها لتبقى مراعي خضراء لا يفسد الإنسان بيئتها التي تشكّل مصانع أوكسجين طبيعية وتنتج غالبية ما يأكله العمانيون من منتوجات الأرض ويتعاملون مع الطبيعة بمنتهى الحذر والاحترام، ويعملون على العناية بمخلفات العصور الغابرة كالقلاع على شواطئ بحر العرب وأبرزها قلعة "سمهرم"، ذلك الميناء المندثر الواقع بين البحر المتوسط والهند والمخصص لنقل "اللبان" العماني، المصدر الرئيس للتجارة مع العالم القديم والذي يُستخدم في المعابد القديمة والبيوت كبخور ثمين.
كما أن العمانيين يستخدمونه في الطب الشعبي، وثمة عوالم ولجناها حيث يقطن الرعاة على عمق 30-40 كيلومتراً في سلسلة جبال ظفار الخضراء مكمن الأسرار، عوالم غناءة لم تفسدها يد البشر. ظلت هكذا تقطعها الشلالات المنحدرة صوب البحر، لتوقظ ذاكرة جيل حمى بيئة عمان وصبر طويلاً قبل قطف ثمار الرؤية الوليدة، المتطلعة نحو المستقبل.