بعد مئة عام على فوز أول كاتب من أصول أفريقية سوداء بالجائزة الفرنسية العريقة "غونكور"، تمنح لجنة التحكيم هذا العام جائزتها إلى الكاتب السنغالي الشاب محمد مبوغار سار (مواليد دكار، 1990). وهذا الفوز يمكن تسميته فوزاً ساحقاً نظراً إلى أن العمل الفائز نال أغلبية أصوات لجنة التحكيم منذ الدورة الأولى للتصويت، ومن دون انتظار الدورات الثلاث التي تعتمد عموماً. وبعد رينيه ماران الذي فاز بجائزة غونكور عام 1921 عن رائعته "باتوالا، رواية زنجي حقيقي"، ها هو الشاب الأفريقي الثلاثيني اليوم ينال الجائزة نفسها عن روايته الرابعة "ذاكرة الرجال الأكثر سرية" (Mohamed Mbougar Sarr, La plus secrète mémoire des hommes) التي اعتبرت رواية شديدة الحنكة الأدبية وغزيرة الأساليب والتقنيات بسبب اعتمادها تقنية الكتابة داخل الكتابة.
خيار جريء لـ"غونكور" هذا العام
اعتبرت الصحافة الثقافية الفرنسية خيار لجنة التحكيم هذا العام خياراً بالغ الجرأة لثلاثة أسباب. ففي اختيار هذه الرواية التي يتأرجح فيها محمد مبوغار سار بين السنغال وفرنسا والأرجنتين، وبين القرن العشرين والقرن الحالي، آثرت اللجنة مرشحاً شاباً يبلغ من العمر 31 عاماً بدلاً من أن تعتمد اسماً مكرساً من بين المرشحين الثلاث الآخرين الذين بلغوا التصفيات النهائية، وبعد عامين من اختيار فائزين في الستينيات من عمرهم، يأتي هذا الخيار جريئاً ومختلفاً.
من ناحية ثانية، يبدو هذا الخيار جريئاً لأن العمل الفائز هو عمل أدبي دقيق مكتوب بحنكة سردية وتقنية عالية قد تحرم النص فرصة بلوغ شريحة كبيرة من القراء الذين سيجدون العمل صعباً وبعيد المنال، ومع تضاؤل شريحة القراء ترجح الصحافة أن أرقام المبيع ستتأثر لا محالة. وبينما اعتاد القارئ الفرنكوفوني روايات فائزة متوسطة تقع ضمن حقول اهتماماته على اختلافها، تأتي هذه الرواية بدرجة عالية من السردية والأدبية والعمق الفكري، لتحصر لذة القراءة بعدد نخبوي من القراء.
أما السبب الثالث الذي جعل هذا الخيار جريئاً فهو اسم الناشر "فيليب راي" بالتعاون مع "جيمسان" (Philippe Rey/ Jimsaan). إن دور النشر الأربعة التي وصلت إلى نهائيات جائزة غونكور دور عريقة، ومن يدرك قليلاً خبايا الجوائز الفرنسية يعرف أن دار فلاماريون ودار غراسيه طالما استأثرتا بحصة الأسد في الجوائز، أما هذه المرة فقد منيتا بخسارة فادحة أمام ناشر صغير مستقل كان من غير المتوقع أن يبلغ المراحل النهائية من المنافسة.
تؤسس لجنة "غونكور" لهذا العام بداية عهد جديد من الخيارات الأدبية الجريئة والأنيقة والمختلفة عن السنوات السابقة، وهل نحن أمام خيارات مستقبلية تبتعد بعض البعد عن خيارات "غونكور" السابقة منذ تأسيسها عام 1903؟
رواية في صنعة الكتابة
يجد قارئ رواية محمد مبوغار سار نفسه في عام 2018 وأمام بطل هو طالب سنغالي شاب يشبه الكاتب نفسه في نقاط متعددة. فيكتشف البطل تحفة أدبية تعود لعام 1938 ويقرر أن يتتبع سر حياة صاحبها. ومع الشهادات والتحقيقات والحبال التي تروح تترابط، يكتشف البطل رويداً رويداً معالم حياة الكاتب الغامض الذي نال جائزة فرنسية عريقة إنما اتهم من بعدها بالسرقة الأدبية، فدفع ثمن الجائزة غالياً وانسحب من عالم الأدب إلى الصمت القاطع مدة خمسين عاماً بعد أن عجز عن الدفاع عن نفسه.
بعد فوزه الساحق، يلتزم الكاتب المحتجب بالصمت وحتى يوم وفاته، وذلك بسبب اتهام الصحافة الفرنسية له بأن نصه منقول عن نصوص أخرى. ومع العودة إلى تاريخ الأدب، يكتشف القارئ أن هذه الرواية مستوحاة من قضية الكاتب المالي يامبو أولوغيم (1940- 2017) وهو روائي فاز بجائزة رونودو الفرنسية عام 1968 لكنه اتهم بعدها بالسرقة الأدبية ما اضطره إلى الرحيل عن باريس والامتناع عن الكتابة والتزام الصمت طيلة السنوات المتبقية من حياته هو الذي حاول الدفاع عن نفسه وتبرئة اسمه عبثاً.
وفي هذا السياق يقول الكاتب في مقابلة أجريت معه عن سبب اختياره لهذا الموضوع: "أردت من خلال تطرقي لموضوع الكتابة والأدب أن أركز على صنعة الكاتب. أردت أن أكتشف نفسي وما أقوم به في حياتي ككاتب، كما أردت أن أقدم نظرة تأملية في الكتابة ودورها وعلاقتها بالحياة والتاريخ. أردت أن أجد كاتباً من القرن العشرين ذائع الصيت وملعوناً بطريقة ما، وأن أبحث عبره عن الأسباب التي يملكها المرء ليكتب وعن التحديات التي يواجهها عند الكتابة والعواقب التي تنزل به بعد النشر. تناولت حياة كاتب مهمش بعد فوز لأنني وجدته شخصاً مذهلاً ومثيراً للاهتمام بغموضه وغرابة المأزق الذي وقع فيه. يضع الكاتب عمله عموماً ويقوم بالمخاطرة بنشره ثم يدفع الثمن غالياً. في هذه الحالة كان الثمن هو الصمت لخمسين عاماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف محمد مبوغار سار متحدثاً عن السرقات الأدبية بأن كل نص هو بطريقة أو بأخرى سرقة أدبية، فالأدب هو قراءة وكتابة وتبادل فكري وأكبر الكتاب هم أمهر السرقة. ويشير الكاتب الفائز إلى علاقة الأدب بالحياة قائلاً: "من الأسئلة التي أطرحها على نفسي سؤال حول علاقة الأدب بالحياة، وإلى أي مدى هما مرتبطان. يمكن أن أقول شخصياً ألا فصل بين الأدب والحياة، فعندما يكون المرء مسلحاً بالكتاب وبالأدب يكون مستعداً للحياة بكل ما تحمل، ولا أعتقد أننا نقرأ لمجرد التسلية أو الانعزال عن المحيطين بنا، نقرأ أيضاً حتى نتمكن من توظيف المعرفة الأدبية في الحياة".
على الرغم من إشادة الصحافة الأدبية الفرنسية بتقنية الكتابة وأسلوب السرد، لا يخفى على الكاتب السنغالي الشاب الذي أراد عبر روايته طرح أسئلة في الأدب والكتابة، أن فوزه بالجائزة قد يكون لأسباب سياسية كذلك، فيقول في مقابلة أجريت معه بعد الإعلان عن فوزه مباشرة: "آمل ألا يكون سبب فوزي هو أنني أفريقي، وأرجو أن يكون النص هو الأساس خلف هذا الخيار. أشكر لجنة التحكيم على قرارها، لكنني لست غافلاً عن القضايا السياسية التي قد تكون وراء هذا الاختيار، وآمل أن يكون الأدب هو الدافع الأول وراء اختياري، الأدب الجميل والنبيل والخالد".