انطلقت فجأة من بين الأعشاب الطويلة والشجيرات الشائكة رشقات من مدفع رشاش وطلقات نارية من سلاح كلاشينكوف، وذلك مع اقتراب مجموعة من القوات البريطانية من المكان. وقد رد عناصرها بإطلاق الرصاص، إلا أنه بعد تبادل كثيف للنار، تم خلاله توجيه نحو 700 طلقة خلال 12 دقيقة، لقي مسلحان من مقاتلي تنظيم "داعش" مصرعهما.
وبعد 24 ساعة كان الجنود البريطانيون أنفسهم يحاولون الهرب من نيران مستعرة تنتقل نحوهم لتضيق الخناق عليهم. واشتعلت في إحدى المدرعات التي كانت تستخدمها الوحدة والمحملة بأسلحة وذخائر ووقود. وقد اضطر العناصر الذين كانوا على متنها إلى القفز منها، وهرعوا إلى مكان آمن، فيما ركض آخرون بحثاً عن مخبأ.
أما النتيجة فكانت جرح جنديين أثناء محاولتهما الفرار من النيران، عملت مروحية على إعادتهما إلى مقر القوات البريطانية، وهي قاعدة دولية بالقرب من مدينة غاو. وكانت مهمة سابقة للفريق الطبي الذي يعالجهم تقضي بتقديم الدعم على أثر انفجار سيارة مفخخة استهدف قاعدة ألمانية، مما أسفر عن إصابة 12 جندياً.
الاشتباك مع "الجهاديين" في شرق مالي يعد الأول من نوعه على مستوى خوض قوات بريطانية نظامية قتالاً منذ العام 2014. وقد سلطت النيران التي كان من الممكن أن تأتي على القافلة البريطانية وتسبب خسائر فادحة، الضوء على الظروف القاسية والمحفوفة بالأخطار التي تعمل في ظلها القوة البريطانية في مالي.
ويعد الوجود العسكري البريطاني في هذه البلاد أحد أهم أعمال الانتشار لقوات المملكة المتحدة في الخارج منذ العراق وأفغانستان، لكن لم يرْشح سوى القليل من المعلومات عن دوره في ما وصفت بأنها أخطر مهمة للأمم المتحدة تحدث في الوقت الراهن.
القوة البريطانية المؤلفة من 300 عنصر والتي اختير عديدها من الكتيبة الثانية التابعة لـ "الفوج الأنغلياني الملكي" Royal Anglian Regiment، ومن سرب من "حرس الخيالة الملكي" Queen’s Dragoon Guards ، إضافة إلى وحدات دعم، تمركزت في منطقة تشهد تمرداً إسلامياً هو الأسرع نمواً في العالم، ولعل من أبرز المؤشرات القوية إلى ذلك أرقام الأمم المتحدة التي تكشف أن قرابة 38 في المئة من جميع العبوات الناسفة بدائية الصنع، التي تم العثور عليها دولياً خلال الأشهر التسعة الأولى من هذه السنة، كانت في مالي.
وينشط في البلاد أحد فروع تنظيم "داعش - وهو "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى"، و"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" المنضوية تحت لواء تنظيم "القاعدة". وقد أعلنت قيادة هذين الفصيلين أن انتصار حركة "طالبان" في أفغانستان قد مدهما بالزخم وأعطاهما دفعاً قوياً لمواصلة "الجهاد" وإخراج القوات الأجنبية من المنطقة.
وتعرضت في المقابل دول مجاورة في منطقة الساحل، تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا، إلى هجمات متكررة في وقت يجرى فيه بناء تحالفات بين جماعات إسلامية مثل "بوكو حرام" وكذلك "داعش" و"القاعدة".
ويبلغ عدد عناصر قوة "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" (مينوسما) MINUSMA 16 ألفاً. وتشارك في إطارها 64 دولة في الوقت الراهن بمهمات مختلفة في البلاد، سواء على المستوى المدني أم العسكري، فيما يتزايد القلق من الوجود "الجهادي" المتنامي.
أما الدور الذي تضطلع به قوات المملكة المتحدة في مالي، فلا شبيه له في أي عمليات أخرى للأمم المتحدة حول العالم. وتقوم "مجموعة الاستطلاع بعيد المدى" Long Range Reconnaissance Group (LRRG) بدوريات تتنقل عبر مساحات شاسعة من التضاريس الوعرة، التي لم تلق من اهتمام الحكومة المالية إلا القليل أو لا شيء يذكر، فيما تعج بكثير من الإسلاميين، وكذلك بعصابات الجريمة المنظمة.
ويقال إن نطاق الدوريات البريطانية هو الأبعد منذ تلك التي نفذت في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية على يد "مجموعة الصحراء بعيدة المدى" Long Range Desert Group التابعة لـ"القوة الجوية الخاصة" Special Air Service، بعد تشكيلها للمرة الأولى. ومن المؤشرات الأخرى إلى انخراط "القوة الجوية الخاصة" في المهمة، تسمية القاعدة الرئيسة في مالي "كامب باغنولد" Camp Bagnold، تيمناً بالرائد رالف باغنولد، مبتكر أسلوب القتال الصحراوي في مصر وليبيا.
ويأخذ الوجود الأجنبي في مالي منحى مثيراً للجدل للغاية، بسبب التنافس الدولي المعاصر، فقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده التي تقود عملاً عسكرياً منفصلاً لمكافحة التمرد تحت عنوان "عملية برخان" Operation Barkhane، ستخفض حجم قواتها في البلاد بشكل كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان النظام العسكري في مالي الذي يحكم البلاد بعد انقلابين وقعا خلال تسعة أشهر، قد اتهم الفرنسيين بتعمدهم "عدم التشاور" معه، و"بالتخلي عن مالي وهي في عز المعركة". وأعلن عن مفاوضات تجرى مع شركة المرتزقة الروسية "مجموعة فاغنر" Wagner Group، لتحل مكان الوحدات الفرنسية.
إلا أن كلاً من فرنسا وألمانيا حذرتا من أنهما ستعاودان النظر في التزامهما العسكري تجاه مالي إذا ما تمت الموافقة على الصفقة مع شركة "فاغنر" التي يملكها أحد حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهذا المالك متهم بارتكاب فظائع في عدد من الدول. أما لندن فأعربت هي الأخرى بلسان وزير الدفاع البريطاني بن والاس عن القلق العميق إزاء هذا التطور.
في غضون ذلك، يتواصل الصراع الذي لا يستكين. وكان من بين آخر القتلى سبعة جنود ماليين سقطوا نهاية الأسبوع الماضي خلال هجمات شمال العاصمة باماكو. اثنان قتلا على يد مسلحين والخمسة الآخرون قضوا بانفجار قنبلة بشاحنتهم الصغيرة كانت مزروعة على جانب الطريق.
وكما هي الحال في مثل هذه الصراعات، فإن المدنيين في مالي هم الذين تحملوا الثمن الأكبر لإراقة الدم، وكانت الأشهر الـ 12 الماضية هي الأكثر فتكاً بهم منذ اندلاع القتال في العام 2012، بحيث قتل 2845 شخصاً.
وتتمحور المهمة الرئيسة لقوة المملكة المتحدة حول جمع معلومات استخبارية في المناطق الريفية التي يصعب الوصول إليها، حيث يقع الناس هناك فريسة أفراد مسلحين، وفي بعض الأحيان لا يقتصر العنف على الإسلاميين والمجرمين وحسب، بل يمارسه أيضاً عدد لا يحصى من الميليشيات التي تدعم الحكومة.
وقد وقعت سلسلة مجازر على يد "الجهاديين"، وكان مصرع 54 شخصاً في قرية أوتاغونا في أغسطس (آب) الماضي إحدى أهم نقاط التركيز بالنسبة إلى القوات البريطانية أخيراً.
وتعد جرائم القتل أحد أسوأ الأعمال الوحشية التي شهدتها القرية خلال الأعوام التسعة الأخيرة، فقد قام مسلحون بتطويقها كما القرى الصغيرة المحيطة بها، ونفذوا عمليات إعدام بحق أهاليها بعد اتهامهم بإبلاغ السلطات عنهم والاستهزاء بطريقتهم في تطبيق الشريعة التي فرضوها.
وكان المسلحون الذين وصلوا على دراجات نارية ينتقلون من منزل إلى منزل في أوتاغونا ويجرون الذكور إلى الخارج، منهم طفل لا يتجاوز عمره 12 عاماً، ومن ثم يطلقون النار عليهم. ويقول العريف تشارلي جونز من الفوج الأنغلياني الملكي" مستذكراً، "كان يمكن مشاهدة آثار فعلة هؤلاء، وكانت توجد ثقوب في الأبواب جراء الرصاص. إن ما حدث هناك كان حقاً سيئاً للغاية".
أما الرقيب شون كارسون التابع لـ "الشرطة العسكرية الملكية" Royal Military Police، فأظهر حفرة على جانب الطريق، حيث رمي أشخاص فيها بعد جعلهم يصطفون وإطلاق النار عليهم.
ويقول كارسون، "لقد أجريت عملية تنظيف إلى حد ما، لكن يمكنك أن ترى الدليل على ما حصل في خندق الري، حيث فقد كثيرون أرواحهم، وما أذكره أن أفراداً تجمعوا تحت شجرة في انتظار أن يغادروا المنطقة، وقد تراكمت بالقرب منهم أتربة وصخور التصق بعضها بالآخر برفات آخرين".
القوات البريطانية نفذت، بعد عمليات القتل في أوتاغونا، عدداً من الاعتقالات لأفراد مسلحين يشتبه بانتمائهم إلى تنظيم "داعش"، وكانت محاولة لاستجواب مسلحين قد أدت إلى إطلاق نار.
وقد انتقل جنود من "حرس الخيالة الملكي" و"الفوج الأنغلياني الملكي" مسافة 160 كيلومتراً (100 ميل)، من قاعدتهم في غاو إلى منطقة نائية، لاستكشاف طرق بديلة لإحدى الطرقات التي زرعت بعبوات ناسفة عندما وقع الاشتباك. وكان الضابط المسؤول الرائد برين ويليامز خلال جولة القتال الأخيرة موجوداً بالمصادفة في أفغانستان.
وقد رصد الجنود شخصين كانا على متن دراجة نارية وهما يحملان مدفعاً رشاشاً متعدد الاستعمالات من طراز "بي كي أم" روسي الصنع، وبندقية هجومية من طراز كلاشينكوف "أ.ك - 47"، وعندما طلب منهما التوقف، حاولا الهرب، إلا أن دراجتهما النارية اصطدمت بحجر فسقطا عنها وفرا نحو بقعة مكتظة بالشجيرات.
ترجل بعض الجنود من عرباتهم المصفحة من طراز "جاكال"، وتوجهوا نحو الشجيرات الشائكة ليبدأ عندها إطلاق النار. ويقول الجندي سام جونز، "حدث دوي مفاجئ، ربما على بعد ثلاثة أمتار فقط، وكان في إمكاني رؤية وميض فوهة السلاح، وعرفت مدى قربه. بعدها لم أستطع رؤية أي شيء آخر على الإطلاق. أطلقت بضع رشقات ثم حاولت الاحتماء، فيما كان مسلحو داعش يواصلون إطلاق النار".
جندي آخر هو كيفن غيثينغ كان خلف جونز بقليل، ارتطم بالأرض هو كذلك. ويقول، "كنت منبطحاً على صدري ورأيت الرصاص يتساقط من حولي على بعد أمتار قليلة، كانت الأعيرة النارية تتطاير في كل اتجاه وشعرت بأوراق الأشجار تتساقط علي".
استخدم الجنود البريطانيون في المواجهة، بنادقهم من طراز SA 80، ومدفعاً رشاشاً متعدد الاستعمالات، وقاذفة قنابل من عيار 40 ميلليمتراً أثناء قيامهم بالرد على النيران. وقاد الرقيب آلان هامفريز عربته المدرعة من طراز "جاكال" إلى وسط الأدغال ليتمكن من استخدام مدفعه الرشاش، لكن إطلاق النيران استمر من جانب "الجهاديين"، وأصابت رصاصات من مدفعهم الرشاش "بي كي أم" إحدى العربات المدرعة.
في اليوم التالي فوجئت القافلة البريطانية التي كانت ما زالت تواصل دوريتها بعيدة المسافة بألسنة اللهب تتصاعد من الأعشاب الطويلة الجافة. انتشر أفرادها على وجه السرعة وكانت عرباتهم في خطر ألا يتمكنوا من الوصول إليها بسبب النيران المستعرة والآتية من ثلاث جهات. علقت إحدى العربات المصفحة وهي من طراز "فوكسهاوند Foxhound في التربة الطرية، وكان لا بد من سحبها، وكان يتعين أيضاً إبعاد الشاحنات الثقيلة التي تحمل الإمدادات، بما فيها الوقود، عن النيران المشتعلة التي كانت تقترب نحوها بسرعة.
وسرعان ما أخذت إحدى العربات المصفحة من نوع "جاكال" بالاحتراق. وكان الجندي جونز ورفيقه غيثينغ، وهما العنصران اللذان تعرضا لإطلاق النار في اليوم السابق، على متنها. وبحسب غيثينغ فإن "الحريق كان ربما أكثر إثارة للقلق من الاشتباك، وكان من الممكن أن يكون الضرر وفقدان الأرواح فادحين للغاية لو لم نغادر المكان".
ولم يعرف في الواقع ما الذي أشعل تلك النيران، إلا أن المتمردين كانوا قد اعتمدوا تكتيك الحرائق في الماضي ضد القوات الدولية والمالية. وفي أي حال، فإن العمل في مثل هذه الساحة المتقلبة والعنيفة يحمل معه إمكان وقوع إصابات، وكذلك القلق من "تغير أهداف المهمة".
لكن المقدم ويل ميدينغز آمر "مجموعة الاستطلاع بعيد المدى"، كان مصراً على القول إن الانتشار البريطاني في مالي لن ينزلق إلى عملية مكافحة تمرد طويلة الأمد كما حصل في أفغانستان.
وحرص أثناء حديثه في قاعدة عمليات متقدمة بالقرب من مدينة ميناكا، على تأكيد أن "المملكة المتحدة عضو في الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة P5، وقد قررت حكومتها المشاركة في حفظ السلام لتضطلع بدورها في ترسيخ استقرار منطقة الساحل والصحراء في وجه الأخطار التي يمكن أن تخرج من هذه المنطقة وتنتشر في دول أخرى".
وأضاف ميدينغز، "لقد طلبت منا منظمة الأمم المتحدة القيام بمهمات استطلاع بعيدة المدى (في مالي)، لأن لدينا القدرة على القيام بذلك. لا أعتقد أن هذه المهمات ستتحول إلى أفغانستان أخرى فالديناميكيات مختلفة تماماً، ومشاركة المملكة المتحدة محددة بمدة معينة".
وأكد أن انخراط القوات البريطانية في القتال لم يخاطر بخرق مبدأ حياد الأمم المتحدة، علماً أن الاشتباك مع العدو كان في بعض الأحيان واقعاً لا مفر منه.
وأضاف، "علينا جمع المعلومات والاستطلاع وطمأنة السكان، هذه هي وظيفتنا. إن مجمل هذه المهمات يمكن القيام بها، لكن هناك نقطة يتعين عليك فيها حماية الناس من الجهات التي تروعهم. كما أننا بحاجة لحماية أنفسنا، وهذا لا يقلل من ترفع القبعات الزرق (القوات الدولية) ونزاهتها، فنحن نتصرف ضمن قواعد الاشتباك التي حددتها الأمم المتحدة".
وفي أثناء مرافقتي لدورية القوة البريطانية على امتداد مساحات مقفرة من الأراضي، تم المرور عبر قرى صغيرة وأخرى منتشرة على مسافات طويلة، وقد نفى بعض السكان المحليين أي علم لهم بـ "الجهاديين" والعصابات الإجرامية، ففي الماضي كان مجرد التحدث مع أجانب يجلب لصاحبه عقاباً دموياً.
لكن قليل منهم على الرغم من ذلك أبدوا استعداداً للتكلم، ففي قرية صغيرة في تارابات وصف أحد المزارعين الذين يعيشون على محاصيلهم واقع الحياة المحفوف بالأخطار بالنسبة إليه وإلى مجتمعه. ولم يشأ محمد نشر اسمه الكامل، إذ إن بعض الذين تحدثوا مع الغرباء واجهوا عقاب الإسلاميين، فقد تم قطع رؤوس أربعة رجال في الماضي بالقرب من المكان الذي تحادثنا فيه.
وقال إن "محمد هو اسم شائع بما فيه الكفاية، لذا لا بأس بذكره. وفي أي حال، إن ما أقوله معروف لدى الجميع، فلدينا قطّاع طرق يأتون ويسرقوننا ويأخذون مالنا والماشية. إنهم ينشطون كذلك في المدن، وقد سمعنا عن نساء تعرضن للاختطاف".
ويضيف محمد، "يأخذ الإرهابيون أموالاً أيضاً لكنهم مهتمون حقاً بمعرفة معلومات عن الجنود والموظفين الرسميين. إنهم ليسوا في وضع يسمح لهم بحكمنا لأنهم لا يستطيعون توفير ما نحتاج إليه مثل الطعام والماء والتعليم، لكن في المقابل فإننا لا نحصل على كثير من الحكومة أيضاً، فقد عملت على بناء خزان مياه لنا، لكنه ما زال معطلاً منذ أعوام، ولم يتم القيام بشيء لإصلاحه".
وخلص إلى القول إن "من الجيد رؤية جنود بريطانيين ودوليين هنا. إن قطّاع الطرق والإرهابيين يبقون بعيدين عندما يرونهم، فنحصل على بعض من السلام، لكن إلى متى سيظل الجنود الدوليون هنا؟ وماذا سيحدث عندما يغادرون؟ إن هذه الأمور هي التي تثير قلقنا".
© The Independent