عرض مهرجان الجونة في دورته الأخيرة أول فيلم روائي طويل للمخرج اللبناني المغاير إيلي داغر، الذي كان صنع مفاجأة عام 2015 من خلال فوزه بـ"سعفة" الفيلم القصير في "كان" عن "موج 98". جديده يحمل عنوان "البحر أمامكم"، وقد شارك في المسابقة الرسمية مع مجموعة أفلام نافست على جوائز التظاهرة السينمائية المصرية التي أحدثت جدلاً عميقاً على مستويات عدة. ثمة قفزة نوعية من التحريك الذي اشتغله في فيلمه القصير إلى الروائي في فيلمه الأحدث. قفزة كبيرة قام بها داغر بأريحية جعلته يعود إلى مهرجان كان، قسم "أسبوعا المخرجين". الفيلم مسكون بالممثلة الرائعة منال عيسى التي تلعب دور جنى، فتاة عشرينية تعود إلى لبنان بعد فترة كفاح في الخارج من أجل الحصول على حياة أفضل. يرسم داغر من خلال قصتها والذين من حولها صورة للشباب ولجيل بأكمله في مدينة بيروت التي يصورها أشبه ببقعة جغرافية تحتضر أو تستعد لكارثة آتية لا محالة، متنبئاً بما حدث بعيد انتفاضة 17 تشرين.
استحالة العيش
"البحر أمامكم" فيلم وجودي بامتياز لسان حال بلد وناس. استحالة العيش واضحة في كل لقطة من لقطاته. تعود جنى من الغربة، فتقصد بيت أهلها حيث تقضي ليلها على الكنبة، ثم تحاول أن تجد موطئ قدم لها في بلد تشعر حياله بالحيرة والغرابة. في جو مضغوط ينذر بانفجار ما، نتابع تفاصيل يومية تكاد تكون بلا أهمية لولا قدرة المخرج على الارتقاء بها. الضغوط التي تمارس على جنى تأتيها من كل حدب وصوب، وهي أسرية وعاطفية واقتصادية. الحياة في لبنان تبدو متجمدة، يهيمن عليها الركود، في أي حال لا تقدم لها شيئاً سوى الفراغ والعبث. ثمة إحساس بالترقب يخلقه الفيلم مشهداً بعد مشهد، كأننا في واقع تجري فصوله في سياق أشبه بحلم اليقظة. لكن، ندرك بسرعة أن ما نزج فيه هو الدوامة اللبنانية تجسد على الشاشة بكلام قليل وأحداث محدودة وصورة سينمائية شكلت بعناية. الفيلم حسي، يوثق أحوال مدينة وناس في لحظة مفصلية من وجودهم. هذا كله يتجسد في وجه -وحضور- منال عيسى التي ما كان لهذا العمل أن يبلغ هذه السوداوية وهذا الحزم من دونها.
إيلي داغر الذي ولد في الثمانينيات، نشأ في منطقة الزلقا، وعلى الرغم من قرب إقامته من بيروت، فإنه لم يعرفها قط. عاش مرحلة لبنان ما بعد الحرب "حيث الجميع خائف تقريباً" كما يقول. لم يتح له اكتشاف العاصمة قبل سن السابعة عشرة، حينما تراءت عالماً آخر وحياة جديدة. و"موج 98" الذي أراده إسقاطاً سوريالياً غرضه نقد العمران العشوائي، باعتبار أنه "لا يكفي أن نظهر بيروت مكاناً رائعاً للهو والسهر"، كان تمهيداً لـ"البحر أمامكم".
ظلام وإحباط
فكرة الفيلم كانت تلازم داغر منذ عام 2015 واستغرق تصويره في النهاية 27 يوماً. عندما خطرت في باله الفكرة، لم تكن بيروت قد دخلت في حيز الظلام والسوداوية والإحباط الذي هي فيه الآن. في حديث مع "اندبندنت عربية"، يقول داغر "هذا الجو كان شائعاً بسبب أزمة النفايات في عام 2015، ولكن لم يكن بالحجم الذي نراه اليوم. أتذكر أنه في هذه الفترة الكثير من اللبنانيين غادروا البلاد. ودعت كثراً من أصحابي في تلك الأيام. بعض هؤلاء كانوا تجاوزوا الثلاثينيات من عمرهم. درسوا في الخارج ثم تزوجوا ورزقوا بأولاد، وفجأةً قرروا ترك كل شيء والرحيل، على الرغم من أن الوضع لم يكن بالسوء الذي هو عليه حالياً. في عائلتنا أيضاً كثر هاجروا عبر الزمن، وبعضهم لم يوفق في الخارج فعاد إلى الوطن. الرحيل ليس دائماً الشيء الذي نعتقده. وضعت في الفيلم هذا الخوف الذي يشلك ويمنعك من أن تكون نظرة إلى المستقبل. وهذا ما عشناه طوال حياتنا في لبنان، ما عدا في التسعينيات حيث سيسيطر علينا بعض الوهم. الفيلم جاء من هذا الرفض بعدم العيش في النكران طوال الوقت. لم يكن أي شيء على ما يرام، على الرغم من أننا كنا ندعي عكس ذلك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شخصية جنى محورية في الفيلم، يحاول داغر قول كل شيء من خلالها، وهي الأقرب إلى حساسيته السينمائية. لكن جنى أيضاً باطنية لديها منطقها الخاص في التعامل مع الأشياء، الأمر الذي لا يسهل الولوج في فكر الفيلم. الأشياء ليست مكتوبة على جبينها بل ينبغي البحث عنها. هي كنماذج اجتماعية كثيرة، ضائعة بين البقاء والرحيل. يقول داغر عنها "تأتي جنى من أماكن عدة. عودتها من باريس أثرت فيها شخصياً، إذ كان عليها أن تواجه نفسها ومحيطها ورأيها في نفسها بحيث إنها تعتبر نفسها فشلت. فشلها ثقيل عليها. لا أحد كان يتوقع منها شيئاً ولكن هذا لا يمنع أنها تشعر بالخيبة من تجربتها. هذا الجانب من الفيلم مستمد من تجربة شخصية، لكني لم أعشها بنفسي بل عشتها من خلال أخي وصديقته اللذين غادرا لبنان في عمر شاب إلى أميركا لكن لم يوفقا فعادا (وأخي هذا للمناسبة وضع الموسيقى التصويرية للفيلم). لعلك لاحظت أن عائلة جنى لا تتحدث في هذا الشأن، ولا تناقش أياً من جوانب عودتها إلى لبنان بعد إخفاقها في الخارج. هكذا كانت عائلتي أيضاً مع عودة أخي. لم أحاول من خلال الفيلم أن أحل مشاكلي الشخصية، ولكنه مشبع بتفاصيل حقيقية من تجربتي".
صور "البحر أمامكم" الذي يقدم العاصمة كمدينة أشباح في انتظار الأسوأ، في الأشهر التي سبقت تفجير مرفأ بيروت على يد العصابة السياسية والمالية الحاكمة. لكن انتهى داغر من وضع اللمسات الأخيرة على الفيلم غداة هذه الكارثة التي دمرت مدينة كاملة. فكيف ينظر إلى فيلم لبناني تجري أحداثه في بيروت ولا يحمل هذه الفاجعة في شرايينه؟ وهل حلت الكارثة كي تؤكد خطابه؟ يرد داغر قائلاً "شاهدت الفيلم مباشرة بعد التفجير، ثم شاهدته مرة ثانية في مهرجان كان، ووجدت أنه يعبر عما يحدث في لبنان من ركود ومعاناة".