إن قضية التحكم بالمناخ وتطويعه لخلق بيئة تتناسب مع حياة الإنسان ليست طارئة، بل قديمة قدم الإنسانية، فلطالما حرص الإنسان في مختلف الأزمنة على تحقيق عنصرين مهمين عند بناء مسكنه: الحماية من المناخ وتأثيرات البيئة الخارجية، وإيجاد بيئة داخلية مريحة.
فنجد كيف عكس تصميم المبنى تفاصيل بيئته، سواء أكانت صحراوية أم جليدية أم معتدلة، باعتماد أساليب معمارية فطرية استُخدمت فيها مواد طبيعية متاحة مع مراعاة المناخ.
مهارة التصميم
بينما تنحو الدراسات الحديثة إلى الأخذ بعين الاعتبار موقع البناء واتجاهاته، وتوزيع الغرف بناءً على الاتجاهات المناسبة مع مراعاة اتجاه الرياح ومكان شروق الشمس وغروبها، والاتجاهات مع الفترات التي تكون فيها الشمس أقل حرارةً، ثم اختيار الواجهة الأنسب لكل منها، بالإضافة إلى استثمار فلسفة الألوان في الأنشطة الحياتية المختلفة والاستفادة من تأثيراتها السيكولوجية، وقدرتها على تطوير نشاط ما، أو دعم شعور ما أو العكس، والأخذ بعين الاعتبار المتطلبات عند تصميم المنازل للحصول على مبنى أكثر اندماجاً وقدرةً على التفاعل مع البيئة، نجد في عالم الحيوان ما يثير الإعجاب والإلهام.
ففكرة التصميم البيئي في العمارة يمكن ملاحظتها بوضوح في مأوى الكائنات الأخرى كالحشرات والطيور والثدييات الصغيرة، التي يُظهر بعضها مهارة فائقة في تصميم بيوتها واختيار مواقعها بما يتلاءم مع حياتها وظروف البيئة التي تعيش فيها. وهي تعطي درساً في التصميم المعماري المتسق مع الطبيعة والآخذ بعين الاعتبار العوامل والظروف المناخية السائدة.
مصدر الإلهام الأول
ولطالما كانت الطبيعة مصدر الإلهام الأول بالنسبة إلى الإنسان. فمعظم وأعظم الاختراعات من الطائرات والحواسيب، وغيرها، استلهمها الإنسان من خلال مراقبته للحيوان وملاحظة سلوكه وطريقة قيامه بأعماله وأنشطته اليومية، كالطيران والسباحة وتوفير الغذاء، وغيرها. وكلما ازدادت الاكتشافات العلمية، وتوسعت مدارك الإنسان، وجد نفسه يعود إلى الطبيعة. وكلما واجهته مشكلة، أو أراد التأكد من صحة حل ما، أو فكرة طارئة، أو مفهوم جديد، يجد ما يثبته له في الطبيعة من كائنات بديعة التكوين.
ومن بيت العنكبوت إلى ممالك النحل وسراديب النمل وأعشاش العصافير رحلة مثيرة في عالم التصميم الحيواني وقدراته الهندسية الفطرية.
تشكيلات هندسية
تراعي الحيوانات الطابع الهندسي بشكل واضح وكأنها تبني اعتماداً على تصميم مسبق التصور، فتعتمد الطيور مثلاً في بناء أعشاشها على شكل هندسي محدد، مثل الكرة أو القبة أو الكأس، أو حتى أشكال هندسية نصفية تتناسب مع مساحة المكان. وعلى الرغم من استخدامها مواد خفيفة الوزن متوفرة حولها، من الأغصان الصغيرة والخيوط والبلاستيك والأوراق والأعشاب، وغيرها، فإنها تنتج بناءً معقداً نسبياً ونسيجاً متشابكاً ومتماسكاً يصمد طوال العام موفراً لها الحماية والراحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما العنكبوت فيملك مهارات خاصة في نسج الخيوط بأسلوب هندسي بارع، وبأشكال مختلفة تتماشى مع طبيعة المكان المحيط ببيته. وعلى الرغم من دقة الخيوط، فإنها تستطيع مقاومة الرياح والظروف المناخية المحيطة لها، إذ يصعب قطع بيت العنكبوت أو تغيير شكله الهندسي الدقيق.
ونجد نوعاً آخر من الكائنات كالنحل، الذي يتخذ من الجبال والأشجار بيوتاً مُتراصّة ومشغولة بدقة وإتقان، باستخدام الشكل السداسي داخل دائرة، وبمهارة استخدام أكبر عدد ممكن من الخلايا في أي مساحة متاحة.
مهندسون بالفطرة
أما النمل فيراعي الموقع والمناخ ومواد البناء بحرفية عالية، فيبني بيوتاً يتوافر في داخلها الرطوبة والدفء، ويستخدم مادة خاصة يختارها من الطين رديء التوصيل للحرارة، ويختار موقع المسكن بحيث لا تغمره مياه الأمطار أو الفيضانات. وتحمي جماعات النمل الأبيض نفسها من الإشعاع الشمسي في المناطق الحارة الجافة بأن تبني لها حجرات أرضية تتجه من الشمال إلى الجنوب على طول طرقاتها، تُعد بمثابة حصون منيعة ضد التبخر الشديد خلال فصل الصيف.
وتختار الأرانب البرية فتحات بيوتها إلى الجنوب كي تتلقى أكبر قسط ممكن من الإشعاع الشمسي المباشر، إضافة إلى الأكوام البارزة التي تقيمها إلى جهة الغرب من مداخل بيوتها لتحميها من العواصف. إن تلك الأرانب إنما تبني بيوتها ومستعمراتها بطرق مناخية سليمة بوحي من الطبيعة وإلهام منها.
اختيار أماكن البناء
إن المتخصصين في العلوم الحديثة والمطلعين على علوم الطاقة و"الفينغ شوي" يحددون اليوم للأشخاص الراغبين في البناء اتجاه معين أفضل طاقياً، ويحددون أماكن وضع قطع أثاث محددة لاستجلاب الطاقة للأفضل، اعتماداً على مجموعة من النظريات القديمة والحديثة التي تعتقد بقدرة اتجاه معين تطوير أو تنمية جانب معين في الحياه كجانب الشهرة أو الثراء أو الصحة أو العمل أو العاطفة، بينما كان للحيوان قديماً، قبل اختراع الوسائل الحديثة، الدور الفصل في اختيار المكان المناسب لبناء الدور والمساكن، إذ كان الراغبون في البناء يضعون في المكان الذي يريدون اختباره قبل البناء عليه عدداً من الماشية ويتركونها في المكان، ثم يعودون بعد فترة ليجدوا أي هذه الحيوانات تحسنت صحتها، وأيها تراجعت صحياً. وعلى هذا الأساس يتم اختيار المكان الأكثر طاقةً على افتراض أن الحيوان متصل بشكل قوي مع الطبيعة والكون.