يرى السياسيون في الدول الديمقراطية أن أسعار البنزين والوقود يجب أن تبقى منخفضة لسببين، الأول أن انخفاضها يدعم النمو الاقتصادي، وهذا يعني ارتفاع دخول الأفراد والشركات وانخفاض البطالة والتضخم، بينما ترتفع إيرادات الضرائب التي تمكن الحكومة من زيادة الإنفاق، والثاني أنه يخفف من غضب الناخبين المنزعجين من ارتفاع أسعار البنزين والوقود.
السياسيون في الدول الديمقراطية يعرفون أن أحد محددات مستقبلهم السياسي هو أسعار السلع الأساسية ومنها الوقود، ومشكلة الرئيس الأميركي جو بايدن مضاعفة لأن إدارته لا تريد أن تتحول أسعار الوقود إلى كرة سياسية يستغلها الرئيس السابق دونالد ترمب والجمهوريون، تمهيداً للانتخابات النصفية المقبلة بعد عام من الآن.
المشكلة ليست في ارتفاع أسعار الوقود، المشكلة في قيام بايدن ونائبته كاميلا هاريس بمطالبة "أوبك" وشركات النفط الأميركية بزيادة الإنتاج في وسط برنامج انتخابي يقوم على الطاقة الخضراء والتغير المناخي، والتفاخر بإنجازات في هذا المجال، فهذا هو التناقض الذي تحاول إدارة بايدن تلافيه، إضافة إلى انزعاج الناخبين من ارتفاع أسعار الوقود.
هدد بايدن ووزيرة الطاقة بأنهما سيتخذان الإجراءات المناسبة لخفض أسعار البنزين، وذكرت وزيرة الطاقة الأميركية جينيفر غرانهولم بأنه سيتم السحب من مخزون النفط الخام الاستراتيجي لخفض أسعار البنزين، وتصريح الوزيرة يدل على جهلها بهذه المواضيع.
قانونياً، الموضوع واضح تماماً، يملك الرئيس السلطة القانونية للأمر بالسحب من المخزون الاستراتيجي بشرط أن تكون هناك حال طوارئ أو عجز في إمدادات النفط، ولكن لا يحق له الأمر بالسحب للتأثير في أسعار النفط، ويعرف الجميع أنه ليس هناك حال طوارئ ولا عجز في الإمدادات، والدليل على ذلك الارتفاع المستمر في مخزون النفط التجاري خلال الأسابيع الأخيرة.
ويذكر أنه جرى العرف على عدم "بيع" النفط المسحوب من المخزون، وإنما إقراضه في مقابل إعادته للمخزون الاستراتيجي مقابل زيادة عينية متفق عليها سلفاً. بعبارة أخرى، هي عملية إقراض بربا لفترة معينة.
اقتصادياً، ما سيتم سحبه هو نفط خام، بينما المشكلة من وجهة نظرهم المشتقات النفطية، فإذا كان تجار النفط والمحللون يرون أن أسعار النفط ستستمر في الارتفاع، فإن التجار والشركات سيقترضون النفط من الحكومة، ثم يخزّنونه حتى ترتفع الأسعار، بشرط أن تكون مدة القرض طويلة من تسعة أشهر إلى سنة، وفي هذه الحال لن يؤدي السحب من الاحتياطي إلى خفض أسعار النفط، ولن يتحول هذا النفط إلى بنزين ومشتقات نفطية أخرى. أما إذا كان التجار والمحللون يتوقعون انخفاض أسعار النفط، فلماذا يقترضونه الآن ليعيدوه بكلفة أعلى؟
هناك احتمال آخر وهو تصدير هذا النفط المسحوب من الاحتياطي الاستراتيجي إلى دول أخرى، ومن ثم فلن يستفيد المواطن الأميركي شيئاً.
إحصائياً، ليست هناك أدلة واضحة على أن السحب من مخزون النفط الاستراتيجي يخفض أسعار البنزين، ولكن حتى لو أخذنا بالحالات التي يمكن أن تعتبر على أنها خفضت أسعار البنزين، فإن الخفض كان بسيطاً ثم ارتفعت الأسعار بعدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل بايدن على حق في مطالبته دول "أوبك" بزيادة الإنتاج؟
حقيقة الأمر أن أكبر منتج للنفط في العالم يطالب الدول الأقل إنتاجاً بزيادة الإنتاج.
وحقيقة الأمر أن الرئيس الذي أوقف خط أنابيب "كي ستون" من ألبرتا في كندا إلى الولايات المتحدة بـ "شخطة" قلم يريد أن يستورد النفط من الطرف الآخر في العالم.
وحقيقة الأمر أن الرئيس الذي أصدر في يومه الأول في البيت الأبيض قراراً بوقف التنقيب عن النفط في الأراضي والمياه الفيدرالية يطلب من دول أخرى زيادة إنتاج النفط!
وحقيقة الأمر أن الرئيس الذي أوقف خط الأنابيب حفاظاً على المناخ يريد أن يستورد النفط في سفن تضخ كميات هائلة من انبعاثات الكربون المدمرة للمناخ لإيصال النفط إلى الولايات المتحدة!
ولكن هل تحل زيادة إنتاج دول "أوبك" فوق الزيادة المقررة مشكلة البنزين وزيت الوقود في الولايات المتحدة؟
الجواب لا، ولهذا لم تقم دول "أوبك+" بزيادة الإنتاج فوق الزيادة المتفق عليها سابقاً، وهذه بعض الأسباب:
1 - المخزون التجاري للنفط الخام في الولايات المتحدة ارتفع بنحو 20 مليون برميل خلال الأسابيع الأخيرة. لماذا يريد بايدن من "أوبك" أن تقوم بضخ المزيد والمخزون يرتفع؟
2 - زيادة إنتاج النفط الخام في دول الخليج لن تحل مشكلة البنزين والوقود في الولايات المتحدة بسبب الوقت الطويل، والذي يصل إلى نحو ثلاثة شهور، من وقت الإنتاج حتى شراء المواطن الأميركي للبنزين، وبالنسبة إلى زيت الوقود فسيكون الوقت متأخراً لأنه يصل مع انتهاء فصل الشتاء!
3 - لماذا التركيز على البنزين؟ أحد أسباب ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة هو تصديره إلى بلاد أخرى، إذ إن صادرات البنزين في ارتفاع مستمر.
4 - حتى لو تجاهلنا صادرات البنزين، فمشكلة الولايات المتحدة في المصافي وليس في كميات النفط الخام، ومدخلات النفط في المصافي الآن أقل مما كانت عليه في 2018 بنحو مليون برميل يومياً، وأقل مما كانت عليه عام 2019، قبل كورونا، بنحو 550 ألف برميل يومياً.
5 - ليس هناك أي دليل على أن أي مصفاة أميركية أو غيرها طلبت نفطاً، ولم تحصل عليه، وهذا يدل على عدم وجود أي عجز في الأسواق، وإذا لم يكن هناك عجز فلماذا يطالب بادين دول "أوبك" بزيادة الإنتاج؟
6 - يظن بعضهم أن الهدف هو زيادة المعروض من النفط الخام، ومن ثم تنخفض أسعار النفط، وبعدها تنخفض أسعار البنزين، وهذا الكلام نظرياً صحيح، ولكن الواقع يختلف إذا لم يكن هناك مشترون، ولكن لماذا هذا التركيز على المصلحة الأميركية وتجاهل مصالح دول "أوبك"؟
توقعات منظمة "أوبك" توضح أنه سيكون هناك تخمة في المعروض خلال النصف الثاني من عام 2020 بحسب الخطة الحالية، ومن ثم فإن التخمة ستكون أسوأ إذا تمت زيادة الإنتاج الآن، وقد يثير البعض فكرة أن الولايات المتحدة تصدر ما بين 2.5 و3.5 مليون برميل يومياً من النفط الخام، ومن ثم فلا حاجة لها بنفط "أوبك"، ولكن واقع الأمر يتعلق بنوعية النفط، إذ إن الولايات المتحدة تصدر النفط الخفيف الحلو والمكثفات، بينما تستورد النفط المتوسط والثقيلة الحامضة، لهذا لا يمكن استخدام هذه الحجة، فحجة تصدير البنزين المذكورة أعلاه أقوى.
ماهي الخيارات المتاحة لإدارة بادين لخفض أسعار البنزين وزيت الوقود؟
نفطياً ليس هناك خيارات سهلة، فالسحب من المخزون يتطلب حال طوارئ وليس هناك طوارئ، وحتى لو اخترعوا حال طوارئ فإن الأثر في الأسعار سيكون بسيطاً، والعودة لحظر صادرات النفط الأميركي سيسبب مشكلات كثيرة، كما أن منع صادرات البنزين سيؤثر سلباً في المصافي، والعودة لحظر صادرات النفط الخام لن يحل مشكلة البنزين وزيت الوقود في الولايات المتحدة، لأن الشركات ستصدرهما للاستفادة من الأسعار العالمية العالية، ومنع صادرات البنزين يخفض أرباح المصافي، ومن ثم فإنها ستقلل من الإنتاج وتزيد من حدة الأزمة.
اقتصادياً هناك حلول عدة تتعلق بالسياسات النقدية والمالية للتخفيف من أثر ارتفاع أسعار الوقود، وهذا يتطلب تنسيقاً بين الحكومة والبنك المركزي، وقد تكون هذه الأمور أفضل ما يمكن أن يقوم به بايدن، خصوصاً أن الحكومة والبنك المركزي يستطيعان التحكم بهذه المتغيرات.
سياسياً هناك أدوات ضغط يمكن أن يستخدمها بايدن ولكنها عالية الخطوة، وقد تسبب رد فعل عكسي، ووضع بادين الانتخابي قد يمنعه من اللجوء إلى أدوات الضغط السياسية، ولكن في السياسة كل شيء ممكن.
هل الهند والدول الآسيوية والأوروبية على حق في مطالبتها دول "أوبك" بزيادة الإنتاج؟
تعاني الهند ارتفاعاً تاريخياً في أسعار الوقود، ولكن ليس بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام، وإنما بسبب فرض أعلى ضرائب في العالم على المنتجات النفطية. وقد بدأت أخيراً في خفض هذه الضرائب موقتاً لخفض العبء على المستهلك، أما الصين واليابان وعدد من الدول الأوروبية فإن أزمة الطاقة فيها تتعلق بقطاع الكهرباء، ونادراً ما يستخدم النفط في توليد الكهرباء.
المشكلة في إمدادات الفحم والغاز والجفاف الذي خفض توليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، والذي نتج منه ارتفاع أسعارهما من جهة، وأسعار الكهرباء من جهة أخرى، وإذا تعمقنا في أسباب المشكلة سنجد أن هناك أسباباً عدة أهمها التدخل الحكومي في تسعير الكهرباء، إضافة إلى أسباب اقتصادية وطبيعية وفنية وأحياناً سياسية، وإذاً لا يمكن لوم دول "أوبك" على أزمة الطاقة في هذه الدول، إلا أنه مع الارتفاع الهائل في أسعار الغاز قامت بعض شركات الكهرباء بخفض استخدام الغاز في بعض المحطات، وأعادت فتح محطات الكهرباء العاملة ببعض أنواع الديزل، فزاد الطلب على النفط، ومن ثم طالبت بمزيد من الإمدادات، ونظراً إلى انقطاع الكهرباء لجأت مصانع ومنشآت عدة، وحتى القطاع السكني، إلى استخدام التوليد الخاص الذي يعتمد على الديزل غالباً، فزاد الطلب على الديزل وانخفض مخزونه، خصوصاً في الصين.
وأعلنت شركة النفط الوطنية الصينية يوم أمس وقف صادرات الديزل وبعض المشتقات، وعن التنسيق مع الحكومة في ما يتعلق بالمصافي، وهذا التصرف يعكس الانخفاض الكبير في مخزون الديزل من جهة، وانخفاض نسبة تشغيل المصافي بسبب انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار الغاز من جهة أخرى.
وفي هذه الحالات أصبح الديزل ومن ثم النفط بديلاً عن الغاز والفحم والطاقة الكهرومائية والمتجددة مرة أخرى، والحديث هنا عن الديزل وليس النفط الخام، إذاً المشكلة في المصافي!
وكما ذكرت في مقالات سابقة فإن أزمة البنزين في بريطانيا لا علاقة لها بالنفط، ولا بـ "أوبك"، وسبب الأزمة هو قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي أجبر كثيراً من سائقي الصهاريج الأجانب على الخروج من بريطانيا، ومن ثم فإن أزمة البنزين سببها عدم وجود عدد كاف من السائقين لتوزيع البنزين على المحطات، وهو الأمر الذي أجبر الحكومة على استخدام الجيش لقيادة الشاحنات وتوزيع النزين على المحطات.
خلاصة الأمر أنه ليس هناك حاجة إلى زيادة إنتاج دول "أوبك" فوق الكميات التي تم إقراراها، ومطالبة بادين وحكومات أخرى لدول "أوبك" بزيادة الإنتاج هدفه لوم آخرين على الأزمة وارتفاع الأسعار، وتحويل الأنظار عن الفشل الداخلي في حل هذه الأزمة.