وسط استمرار التوتر في منطقة المحيطين الهندي والهادي، حيث تواصل بكين التحركات العسكرية تجاه تايوان، كشفت وسائل إعلام أميركية عن جدل واسع داخل أروقة صنع القرار الأميركية بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه التهديدات الصينية للدولة الجزرية التي تعتبرها الصين جزءاً من أراضيها.
ويسود الكونغرس جدل حول ما إذا كان ينبغي على البيت الأبيض تبني موقف رسمي أكثر صرامةً، بما في ذلك النظر في منح الرئيس الأميركي جو بايدن تفويضاً مسبقاً باستخدام القوى العسكرية إذا ما أقدمت الصين على الغزو العسكري لتايوان، وهو الأمر الذي من شأنه أن يقوّض جهود المشرعين الأميركيين لتقييد سلطات الحرب الرئاسية، كما يخشى أعضاء من الحزبين من أن أي تغير في سياسة واشنطن تجاه تايوان يمكن أن يُنظر إليه من قبل بكين على أنه "استفزاز، وليس ردعاً".
ويتعلق الجدل داخل الكونغرس بشكل أساسي، بما يسمى "الغموض الاستراتيجي"، وهي السياسة التي تحكم الموقف الأميركي تجاه الصراع بين الصين وتايوان طيلة أكثر من أربعة عقود. وتنص عقيدة الغموض الاستراتيجي، المنصوص عليها في قانون العلاقات مع تايوان لعام 1979، على دعم الولايات المتحدة لتايوان في بناء دفاعاتها وتعزيزها دون التعهد صراحةً بتقديم مساعدتها في حال حدوث هجوم أو غزو من الصين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أثار الرئيس الأميركي ما وصفه بعض المراقبين ووسائل الإعلام الأميركية بـ"زلات اللسان" عندما رد بالإيجاب على سؤال بشأن احتمال حدوث تدخل عسكري أميركي للدفاع عن تايوان في حال تعرضها لهجوم من الصين، قائلاً، "أجل، لدينا التزام في هذا الصدد"، ما دفع البيت الأبيض إلى إصدار بيان يوضح أن "العلاقات الدفاعية الأميركية مع تايوان تعتمد على قانون العلاقات" الذي يعود إلى عام 1979، وأنها ملتزمة بحدود هذا القانون.
رسائل مختلطة
وأشار تيد غالين كاربنتر، الزميل لدى معهد كاتو (مركز أبحاث سياسية في واشنطن) إلى أن تصريح بايدن، ثم تدخل فريقه في البيت الأبيض لنفي أي تغيير في السياسة الأميركية تجاه قضية تايوان، يمثل رسائل مختلطة تثير غضب بكين، وتزرع ارتباكاً خطيراً في منطقة مضطربة من العالم.
والشهر الماضي، كشفت رئيسة تايوان، تساي إنغ - وين، للمرة الأولى عن وجود عدد صغير من القوات الأميركية في الجزيرة للمساعدة في التدريبات العسكرية، قائلة إن لديها "ملء الثقة" بأن الجيش الأميركي سيدافع عن البلاد في حال تعرضها لهجوم صيني، ما استدعى انتقاداً حاداً من الصين، التي اتهمت الولايات المتحدة بالسعي لـ"إثارة المشكلات"، مؤكدةً أنها "تعارض بشدة" أي اتصالات رسمية أو عسكرية بين تايبيه وواشنطن.
وهددت الصين قبل ذلك بغزو تايوان، الدولة التي ترأسها حكومة ديمقراطية منتخبة، ويقطنها نحو 24 مليون نسمة، بينما تزعم بكين أنها جزء من أراضيها، وترفض الاعتراف باستقلالها قبل أكثر نحو 72 عاماً. وتطالب بكين بالمضيق الذي يفصل البر الرئيس للصين عن جزيرة تايوان، وفي حال إقدامها على هذا العدوان سيكون اختباراً لالتزام واشنطن بالدفاع عن حلفائها.
وخلال السنوات الماضية، نشرت الصين كجزء من توسعها العسكري المستمر صواريخ على طول مضيق تايوان، وتجري تدريبات عسكرية بشكل دوري في القرب من الجزيرة، وأرسلت طائرات مقاتلة وحاملة طائرات نحو المضيق في استعراض للقوة.
ويقول تقرير لوزارة الدفاع الأميركية لعام 2017، "يواصل جيش التحرير الشعبي تطوير ونشر القدرات العسكرية التي تهدف إلى إجبار تايبيه على الاستسلام، أو محاولة الغزو إذا لزم الأمر".
زلة مرغوبة
وفي حين اعتبر البعض رد بايدن "زلة لسان"، فإن الأمر أثار نقاشاً داخل الكونغرس بين فريق مؤيد لاتخاذ موقف متشدد من الصين وداعم بوضوح لتايوان وموقف يرفض استفزاز بكين تجنباً للتورط في حرب.
وقال السيناتور جيم ريش، وهو العضو الجمهوري الأعلى في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، "هذا يحتاج إلى رد مباشر للغاية من جانبنا جميعاً تتم صياغته بشكل صحيح، لأن هناك توازناً دقيقاً للغاية، وقد حافظنا على هذا التوازن الدقيق سنوات عديدة. وسيكون الأمر مزعجاً إذا غيّرنا ذلك".
كما أشار النائب الديمقراطي جيم ماكغفرن، وهو مؤيد منذ فترة طويلة لتقييد سلطات الحرب الرئاسية، "أنا لست مهتماً بحرب باردة أو ساخنة. أعتقد أننا يجب أن نركز على إيجاد طرق لمنع أي نوع من المواجهة".
وعلى الجانب الآخر، أعرب عديد من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين عن آمالهم أن تكون تعليقات بايدن في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تحولاً واقعياً، إذ قالت النائبة الديمقراطية إيلين لوريا، ضابط بحري متقاعد ونائبة رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، إنه على الكونغرس أن يفكر في منح بايدن "تفويضاً محدوداً ومحدوداً للغاية لاستخدام القوة العسكرية. للدفاع عن تايوان. ومن شأن هذا الإجراء أن يحد من "الغموض الاستراتيجي" بشكل فعال، ويسمح للرئيس بالرد الفوري على هجوم أو غزو صيني دون انتظار أن يرسل إليه الكونغرس تفويضاً.
وأضافت لوريا، بحسب "بولتيكو"، أن الأمر قد يستغرق أسابيع أو أشهراً حتى يدرس الكونغرس ويناقش تفويض الحرب، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدة للرد في أي لحظة، وهذا يعني أن تكون "أقل غموضاً" بشأن ما تنوي القيام به.
وتابعت، "إذا كنا سنتدخل بطريقة من شأنها أن تحدّ من نطاق الصراع، أو تمنع الصين من غزو تايوان، أو تردعها، فيمكننا حينئذٍ تجنب حرب واسعة النطاق".
تعزيز قدرات تايوان
يتردد معظم أعضاء الكونغرس - الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء - في منح الرئيس سلطة أولية للتدخل عسكرياً في حالة الغزو الصيني لتايوان. ويأتي هذا متزامناً مع تحرك الأغلبية من الحزبين في كل من مجلسي الشيوخ والنواب لتقويض سلطات الحرب الرئاسية بدلاً من توسيعها.
وفي تصريحات صحافية سابقة، قال السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، "لست من المعجبين أو المدافعين عن إعطاء سلطات حرب بشكل استباقي لرئيس. إذا شعر الرئيس أن هذا ضروري، فعليه أن يأتي إلى الكونغرس، وبعد ذلك يمكنه الحصول على إذن لاستخدام القوة العسكرية".
ونقلت "بولتيكو" عن مسؤول كبير في إدارة بايدن، قوله إن البيت الأبيض "سيواصل الحديث مع الكونغرس بشأن هذه الأمور المهمة"، وأن الإدارة الأميركية لا تزال ملتزمة بالسياسة الحالية تجاه تايوان، لكن في الوقت نفسه، يعبر بعض المشرعين عن انفتاحهم لمزيد من تعزيز القدرات الدفاعية لتايوان، بطرق يمكن أن تشوش سياسة الغموض الاستراتيجي.
وقال السيناتور الجمهوري جوني إرنست، وهو من المحاربين المخضرمين وعضو لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، "أعتقد أن هناك طرقاً يمكننا من خلالها تمكين تايوان، سواء أكان ذلك من خلال المبيعات العسكرية الخارجية، أو من خلال النفوذ مع الصين، أو كل ما يمكننا التعامل به".
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، قدم السيناتور جوش هاولي، عضو لجنة القوات المسلحة، تشريعاً، يتضمن تخصيص 3 مليارات دولار سنوياً لتايوان بغرض تعزيز قدراتها العسكرية كرادع ضد العدوان الصيني. ومع ذلك، حذر من أن الولايات المتحدة يجب ألا تقترح على تايبيه أن تكون واشنطن على أهبة الاستعداد لدرء أي هجوم.
وبموجب قانون العلاقات، تعتمد تايوان على الأسلحة الأميركية في المقام الأول، ففي يونيو (حزيران) 2017، أعلنت الولايات المتحدة بيع أسلحة بقيمة 1.4 مليار دولار إلى تايوان. وبين عامي 1979 و2017 احتلت تايبيه المرتبة التاسعة كأكبر متلقٍ للأسلحة على مستوى العالم. وخلال الفترة نفسها، زودت الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة أرباع مشتريات تايوان من الأسلحة، وفقاً لقاعدة بيانات نقل الأسلحة في معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام.
ولطالما كان بايدن، السيناتور ورئيس لجنة العلاقات الخارجية سابقاً، حذراً من جرّ الولايات المتحدة إلى حرب مع الصين. ففي مايو (أيار) 2001، كتب في صحيفة واشنطن بوست، منتقداً الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش لإعلانه أن الولايات المتحدة عليها التزام بالدفاع عن تايوان، على غرار ما قاله هو نفسه الشهر الماضي.
وفي مؤتمر صحافي في غلاسكو، حيث تنعقد قمة الأمم المتحدة للمناخ، قلل بايدن من احتمال اندلاع نزاع مسلح مع الصين أو حتى "شيء ما يحدث عرضاً"، مشيراً إلى أنه "لا يجب أن يكون هناك صراع".
ويرى مراقبون أن إدارة بايدن أظهرت القليل من الاهتمام بالتخلي عن "الغموض الاستراتيجي"، حتى عندما لمّح الرئيس نفسه إلى تغيير في السياسة في تصريحاته غير الرسمية الشهر الماضي، لكن يحذر بعض المشرعين من التصريحات والإجراءات الأخرى التي يمكن أن تغير السياسة الأميركية طويلة الأمد تجاه تايوان، مشيرين إلى أن الوضع "لا يزال هشاً للغاية".