على مدى أكثر من ديوان، وبخاصة ديوانه الجديد "محاولة لإنقاذ غيفارا" (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، ينطلق الشاعر المصري كريم عبدالسلام من رؤية محددة لعالم مقسوم على نفسه في ثنائيات متصارعة من قبيل القاتل والقتيل والقناصين والفرائس.
وفي هذه الحالة يغلب على اللغة مستوى التواصل، فهي لا تلتفت إلى نفسها كثيراً بقدر ما تلتفت إلى متلقيها راغبة في إيصال هذه الرؤية المأساوية له. يمكن إذاً وصف هذه اللغة بأنها شفاهية تواصلية، لهذا يكثر فيها استحضار المتلقي وشيوع ضمير المخاطب: "قلت لك/ لا يمكن أن تجعل نفسك غير مرئي/ انتهى هذا الزمن الذي كان الناس فيه يعثرون على المصباح السحري/ يأمرونه فيخرج الجني ليحقق كل مطالبهم/ ولم تعد تلك النافذة مفتوحة على الخيال/ وعليك أن تواجه العالم/ بوزنك الزائد/ واكتئابك/ ورغبتك في التزام الصمت". ومن المتاح أن نعد هذا الخطاب نوعاً من التجريد، والنظر إليه بوصفه خطاباً للذات، غير أنه لا يخلو من الدلالة على استحضار المتلقي. على أن أهم ما توحي به هذه السطور هو أن الشاعر قد أصبح والعالم وجهاً لوجه، وعليه أن يواجهه كأنه سجنه الذي اكتشف نفسه داخله دون تعويل على الأساطير والمعجزات التي كانت – في حقيقتها – حيلة الضعفاء والمقهورين. لقد كثرت كوابيس العالم وازدادت بشاعته، ولم يعد هناك مجال للخيال الذي يقاوم وطأة ذلك. وإذا ما بدا هذا الخيال فهو خيال فانتازي مفزع حين يرى الشاعر الوحوش متنكرة في هيئات لا تخطر على البال، ويصبح استناد عجوز على ذراع الشاعر سبباً في بترها، واجتذاب دمها الفوّار لأسماك القرش الهائمة. ويتحول الأطفال أصحاب الوجوه الملائكية إلى قتلة وخفافيش تنهش وجه الشاعر.
تحولات مباغتة
هناك دائماً قناع يغطي إلى حين وجه القاتل الذي ينكشف في لحظة مباغتة... "احتفظ بمسافة أمتار إذا اضطررت للكلام مع أحد/ لا تعرف متى/ لا تعرف كيف/ يخلع قناعه ويظهر الوحش بداخله". هذه التحولات المباغتة التي لا يعرف الشاعر متى وكيف تحدث لا يملك إزاءها سوى التساؤل المرير المندهش: "ليل يظهر في الصباح... من استدعاه؟/ ثيران تخرج من رواد المقهى... من أطلقها؟/ إرهابيون يطلون من ياقات العازفين... كيف تحولوا؟ أرامل في فتيات الثانوية... من القاتل؟".
إن تحول الأشياء والظواهر إلى نقائضها تيمة أساسية في الديوان، وهي تعكس مفارقة واضحة بين الليل والصباح والثيران ورواد المقهى والإرهابيين والعازفين وفتيات الثانوية اللائي يتحولن إلى أرامل. وفي سلوك الوحوش التي "تلتفت إلى أقرب الفرائس منها وتغرز أنيابها/ ثم تعود إلى مكاتبها تلعق بقايا الدماء على أشداقها/ وترفع صوت الموسيقى". وفي نماذج أخرى يضع الشاعر كل هذه الأطراف تحت حكم الضرورة وكأن حالة القهر مفروضة على الجميع لا يستطيع أحد الخروج من أسرها. فهؤلاء الصيادون يبكون أيضاً مثلهم مثل الضحايا و"يصرخون ويضربون صدورهم: لسنا مجرمين/ لدينا أطفال يريدون الطعام/ ولحوم الجثث هي كل ما نعرف/ كل ما نستطيع تقديمه لأطفالنا على العشاء".
علاقات ملغومة
إننا أمام عالم يقتات على نفسه، على لحوم ضحاياه، والبقاء فيه للأقوى والأكثر فتكاً. والخطر ليس قاصراً على الوحوش الكبيرة الظاهرة، فهناك القوارض التي "تخرج في مجموعات كبيرة/ وتهاجم في ضراوة/ ومهما قتلت منها/ ستحيط بك في النهاية/ وتلتهمك في قضمات صغيرة مؤلمة/ تذكر أيضاً/ أن النمل يستطيع هدم البيت على رأسك".
وبهذا يمكن القول إننا معرضون لقوة الوحوش الكبيرة الذاتية وقوة المجموعات الصغيرة هائلة العدد التي تحيط بنا وتلتهمنا. فالنمل بأعداده الكبيرة ودأبه قادر على هدم البيت على رءوسنا. كان المتنبي يقول: "ولما صار ود الناس خبا/ جزيت على ابتسام بابتسام"، بوصف الابتسام ليس دليلاً على المودة، لكن كريم عبدالسلام يحذر من الابتسام في وجه أحد، لأنه سيعتبرها "سخرية من ملابسه/ أو قد يظن أنك تعرف سر عائلته/ وكيف تم القبض على أبيه متلبساً بالسرقة/ وسيأتي إليك شاهراً مطواته/ والغضب يعمي عينيه". هي إذاً علاقات ملغومة لا تتيح لأحد أن يثق في الآخر. حتى المطر – رمز الحياة – يجعل الأمور في رؤية شاعرنا "أكثر ارتباكاً/ ويصعب الحياة على الصيادين والضحايا/ لأنه يذكرنا بأحلامنا عن الحياة". المطر لم يعد مصدراً للحياة. إنه – فحسب – يذكرنا بها ويستحضر أحلامنا عنها. ويتحول "البيت" – في نموذج آخر – إلى "مخبأ لا يحميك من العابرين آخر الليل/ أولئك الذين يحملون العصيّ والمطارق/ يدقون بها على الأبواب/ ومن صوتك يزنون قوتك".
والحقيقة أن الصوت الشعري – في هذه القصيدة – ينقسم إلى صوتين: صوت واهم يتخيل أن البحر يسير في الشارع وأن الحدائق تناديه والجنيات تعزف الموسيقى، لكن هذه المقطعات التي تعبر عن الوهم تبدأ بالصوت المحذر "إياك أن تنخدع". فالشاعر يطلب الرؤية لا الرؤيا، الحقيقة لا الوهم الزائف. لهذا يخاطب نفسه بألا يغمض عينيه عن فداحة المشهد: "لا تغمض عينيك أبداً/ ولا تُدر رأسك الناحية الأخرى/ عليك أن ترى المشهد بتفاصيله/ كيف تتحطم عظام الفرائس/ كيف يتمزق الغافلون/ كيف تختال الوحوش/ وكيف تنهار أمام وحوش أكثر شراسة".
صورة غيفارا
ومن المؤكد أن الشاعر جزء من المشهد، لهذا يصور في "يوميات مقهى البستان" دمه الذي يسيل في الشوارع لتتشكل منه "ناطحات سحاب وسفن عائمة/ ميليشيات وحراس بملابس مزخرفة". هذه السطور تلقي الضوء على عنوان الديوان. فغيفارا بحياته الدرامية التي تقترب من حدود الأسطورة يُعد رمزاً ناصعاً لمقاومة الاستعمار في أي مكان. ومن المعروف وقوفه مع الثورة الجزائرية وقضية فلسطين ومقاومة الرأسمالية العالمية التي تصنع من دماء المقهورين الفقراء ناطحات سحاب وسفناً عائمة وتحرسها بالميليشيات والحراس ذوي الملابس المزخرفة. هذه الرأسمالية العالمية هي التي "تصنع من الطفلة طعاماً للقطط/ ومن المرأة مدينة ملاهٍ/ ومن الشاب بندقية صيد". هذا في الوقت الذي تطبخ فيه الأمهات الحصى لأطفالهن المنتظرين. وهو ما يذكرنا بحكاية المرأة الفقيرة مع عمر بن الخطاب، والتي كانت تقوم بالفعل نفسه، فلم يكن من عمر إلا أن يحمل الدقيق لها بعد أن عرف – أثناء مروره الليلي – حكايتها. ووسط هذا الهول لا يستطيع الشاعر أو غيره تغيير العالم، وأن يفي بصرخته المدوية "سنغيرك أيها الجحيم/ وسنأتي بعالم أفضل وأعدل وأجمل وأرحم وأرحب/ سنأتي بعالم يتسع لأحلامنا". لا يملك الشاعر سوى صرخته هذه بينما يظل العالم على حاله "خبيثاً قاسياً ظالماً معدوم الضمير". ولهذا، فإن الشاعر لن يبالي بإنقاذ العالم من الدمار، لأنه لا يملك فيه شيئاً، ولن ينهار سوى أندية القمار في تكساس وبورصات "وول ستريت" وطوكيو ولندن. أما نحن فميتون فعلاً "من قال إننا موجودون على الأرض/ من قال إن لدينا ما نخاف عليه؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتكمن المفارقة الأليمة في أن "الغرباء" المقهورين لم يجدوا مكاناً آمناً من الوحوش سوى السجن المفتوح. ومع ذلك أصبح هذا السجن عزيزاً، بعد أن جاء صاحبه وأغلق بابه على الجميع، الأمر الذي يجعل الشاعر يصنع سجنه بيديه حين يقول: "استمتع بلحظة الدخول إلى البيت/ وإغلاق الأبواب بالأقفال والسلاسل/ وتفقد الغرف والزوايا بالكشافات والأسلحة". والأكثر غرابة أن يتحول السجن إلى "قفص زجاجي" يحمله الشاعر فوق ظهره حتى يحتمي به من الوحوش... "عليك أن تحمل القفص الزجاجي الذي تحتمي داخله/ على ظهرك/ وفي اللحظة المناسبة تدخله وتشاهد/ كيف تضرب تلك الكائنات أخطامها بالجدران الشفافة التي تحميك".
الحلم بتغيير العالم
إن الحلم الكبير بتغيير العالم الحلم الذي يشتهيه الفيلسوف والشاعر، كما كان يقول صلاح عبدالصبور، لم يعد ممكناً وتضاءل حتى أصبح مجرد القدرة على البقاء على قيد الحياة إلى أن تأتي الحياة الكاملة الحقيقية. وفي قصيدة "بوتيك غيفارا" – ولنتأمل العنوان الذي جعل من ذلك المناضل علامة تجارية في دورة الرأسمالية العالمية التي وقف ضدها – نجد "صورة غيفارا في الفاترينة، مرة بالسيجار الكوبي والنظرة الساهمة لجيمس دين/ ومرة بالبيريه الأحمر ونصف ابتسامة/ الصورتان مغسولتان بالفوتوشوب/ ملونتان وزاهيتان".
أما صُوره التي تعبر عن نضاله وتمكن حراس الديكتاتور منه، فلا أثر لها، حيث لا توجد صورة له وهو حافٍ منكس الرأس لحظة القبض عليه. لقد تم تغييب هذه الصورة، ولم تعد الأجيال تعرف حقيقة غيفارا: "لا توجد صورة لتشي، قلت للشاب الراقص في بوتيك غيفارا/ فانزعج وخلع السماعات الصينية من أذنيه، وأشار إلى فاترينة: ألا ترى... من هذا؟".
عندئذٍ نقترب من نهاية العالم، حيث تبكي السماء على البشر قبل أن تغرقهم، وحين تلفظ الأرض ما عليها غضباً، والبحار الهائجة تلقي ما في جوفها. إنها نهاية العالم القديم بشروره ووحوشه وبداية عالم جديد يمكن للمرأة فيه أن تمد يديها إلى المطر وتغمض عينيها حتى تصل إلى النشوة، وأن يلقي الرجل البذور في الأرض النشوانة. إنه الطوفان الذي يشبه طوفان نوح، والذي يبني فيه الشاعر سفينته، ويضع فيها أحلامه ويراودها عن نفسها. يصبح بيت الشاعر سفينة نوح، يحتفظ فيه فقط "بالحمام وأغصان الزيتون"، رمزَي السلام. ومن الواضح – إجمالاً – أن الشاعر يعتمد – كما ذكرت – على اللغة التواصلية التي تحقق شعريتها بما يسمى الانحراف عن السياق المألوف. فعندما يقول: "أطفال يبيعون أصابعهم في إشارات المرور"، تتحقق الشعرية في دال الأصابع الذي استبدله بما هو متوقع: الزهور، الورد. والاعتماد كذلك على الصورة المشهدية التي يتحدد فيها المكان والزمان والحدث: "في الخارج/ معارك طاحنة/ خصوصاً في الليل". وظاهرة التكرار التي لاحظناها في خمسة مواضع. ففي "يوميات مقهى البستان"، مثلاً، يتكرر دال البنات تسع مرات في أول السطور، ما يحقق إيقاعية النص الشعري.