خمسون فيلماً روائياً طويلاً للسينما خلال خمسين عاماً تقريباً، وأفلام عدة متوسطة أو قصيرة، ناهيك بدزينتين وأكثر من الأعمال التلفزيونية... ولنضف إلى هذا بعض ظهور عابر على الشاشة في بعض الأفلام، وطغيان فكاهة سوداء وحس ساخر على أفلام الجرائم وسينما التشويق... سيكون من المنطقي لمن يقرأ هذه المقدمة أن يعتقد أننا نتحدث عن ألفريد هتشكوك. فتلك هي تقريباً محصلة العمل السينمائي لهذا الذي يعتبر اليوم واحداً من أعظم السينمائيين الحقيقيين الذين مروا في تاريخ الفن السابع. بيد أننا لا نتحدث هنا عنه، بل عن كلود شابرول، زميله الفرنسي الذي، من دون أن يرغب حقاً في أن يكون، كان "نسخة" فرنسية منه، شابهه في أمور كثيرة. بل أكثر من هذا: شابرول بدأ حياته السينمائية بإصدار واحد من أول الكتب الفرنسية عن هتشكوك، شراكة مع مواطنه الذي سيصبح مخرجاً طليعياً كبيراً بدوره، إريك رومر. كان ذلك في عام 1957 وحتى قبل أن يكتشف النقد الأميركي الجاد نفسه أهمية هتشكوك خارج شباك التذاكر، ويدرك موقعه في ما سيسمى لاحقاً "سياسة المؤلف" في السينما... وطبعاً قبل أن يصدر زميله فرانسوا تروفو كتاب حوارات مع هتشكوك نفسه سيعتبر واحداً من أبرز كلاسيكيات الكتب السينمائية.
متن سينمائي متنوع ومتفاوت
بين أول أفلامه، "سيرج الجميل" (1958) وآخرها "الفتاة المقطعة قسمين" (2007) الذي أنجزه قبل رحيله عام 2010 بثلاثة أعوام، حقق شابرول ذلك المتن السينمائي الذي يبدو لنا اليوم في تأمل استعادي، شديد التنوع، وحتى شديد التفاوت من الناحية الفنية، حيث نرى فيه أفلاماً رائعة تترك لصاحبها مكاناً مميزاً في تاريخ السينما الفرنسية، كما نجد فيها أفلاماً سيقول شابرول بعد تحقيقه كل واحد منها إنه إنما حققها لأسباب تجارية/ معيشية لا أكثر. ولعل في وسع المشاهد الحصيف أن يلاحظ أن معظم الاستعادات التي تقام في مدن كثيرة من العالم لسينما شابرول منذ رحيله على الأقل نادراً ما تتضمن أي واحد من أفلام النوع الثاني التي تحمل عناوين مثل "دكتور بوبول" و"النمر يحب اللحم الطازج" و"النمر يتعطر باليناميت" أو "ماري شانتال ضد الدكتور خا"... مثل هذه الأفلام حققها شابرول في الستينيات من القرن الماضي يوم سادت موضة أفلام التجسس وجيمس بوند، وكان شابرول حينها يرغب في الانفصال تماماً عن سمعته كواحد من مخرجي أفلام "الموجة الجديدة"، ناهيك عن أنه في ذلك الحين إذ تحول إلى الإنتاج، بات تواقاً إلى تحقيق أرباح. ويذكر كاتب هذه السطور أنه خلال التقائه شابرول في طائرة نيس/ باريس بعد انقضاء دورة عام 1978 لمهرجان "كان" التي نالت فيها إيزابيل هوبير جائزة أفضل ممثلة عن دورها في "فيوليت نوزيير" من إخراج شابرول نفسه، قال هذا الأخير لنا ضاحكاً بعد حديث طويل عن النبيذ وقيمته الاجتماعية والغذائية في فرنسا، لا سيما الأنواع الأبهظ كلفة من بينه، أنه اضطر إلى تحقيق تلك الأفلام لتوفير ثمن النبيذ الذي كان يلتهمه بوفرة، وظل كذلك حتى آخر أيام حياته هو الذي عرف بذوقه البورجوازي الكبير في مجال تذوق الخمور الأصيلة... طبعاً كان شابرول في ذلك "التصريح" يمزح كعادته، لكن مزحته كانت تعبر عن رأيه في تلك الأفلام التي لم تكن على أي حال كثيرة العدد...
حكايات الحماقة القاسية
ما كان كثيراً، في المقابل، إنما كان أفلامه التي انتمت في شكل أو في آخر إلى ما يمكن تسميته سينما الحكايات العائلية القاسية. فمن اللافت حقاً أن العدد الأكبر من أفلام شابرول المهمة إنما يدور في أجواء وبيوت عائلية، بما في ذلك الأفلام التي تتمحور مواضيعها من حول جرائم أو صراعات أو ما يشبه ذلك ... ومع هذا، من بين الألقاب الكثيرة التي أتاحت مواضيع أفلام شابرول إطلاقها عليه– ومنها "مخرج الأفلام البورجوازية" و"سيد التشويق العائلي" و"مبدع حكايات المرأة الخائنة" و"المصور الدقيق للروح الإنسانية"– كان شابرول يفضل لقباً يبدو أنه هو من كان قد أوحى به: "مخرج الحماقة"... أي بشيء من الاختصار، المخرج الذي صور الحماقة البشرية في أفلامه بأقصى وأقسى تجلياتها هو الذي اعتاد أن يقول "لا شك في أن الحماقة أكثر فتنة من الذكاء بكثير، وهي أكثر عمقاً منه على أي حال. فللذكاء حدود يمكن التوقف عندها، أما الحماقة فلا حدود لها، لذا تسمح للمخيلات بالاشتغال من دون هوادة". وتقول الحكاية، إن هذا الكلام قاله شابرول إثر ضجة أحدثها في عام 1963 فيلم "لاندرو" الذي كتب له السيناريو بنفسه شراكة مع الكاتبة المعروفة فرانسواز ساغان، ورأى فيه نقاد كثر "نوعاً من الافتتان بالشر والحماقة في الآن معاً"، أي شر المجرم "لاندرو" الذي اقتبس السيناريو عن حكايته الحقيقية، وحماقة ضحاياه. يومها أدلى شابرول بذلك التصريح، مضيفاً أن أهم ما في حكاية ذلك السفاح إنما هو حماقة ضحاياه...
مواضيع أساسية في رواية إنجليزية
وفي هذا الإطار العائلي يبرز بشكل خاص فيلمه "الاحتفال" الذي اقتبسه من رواية للكاتبة الإنجليزية روث راندال. وهو فيلم ينظر إليه النقاد عادة باعتباره القمة السينمائية التي جمعت معظم "ثيمات" سينما شابرول الأساسية من علاقة السيد بالعبد إلى الخيانة الزوجية وغير الزوجية، إلى انحطاط البورجوازية الريفية إلى القتل الطقوسي إلى الصداقة إلى... الحماقة نفسها، ناهيك بإبداعه الاستثنائي هنا في إدارة ممثلتيه الرئيستين إيزابيل هوبير وساندرين بونير إلى جانب جاكلين بيسيه...
وإلى جانب "الاحتفال" يذكر عادة لشابرول فيلم "ريفي" آخر هو "الجزار" من بطولة ستيفان أودران وجان يان والمحقق في عام 1970. ويدور "الجزار" من حول جريمة في بلدة ريفية تقع ضحيتها امرأتان تذبحان في شكل وحشي... ويحدث إثر هذا أن تقع معلمة مدرسة في هوى رجل غريب الأطوار سرعان ما تظن أنه هو القاتل فلا يكون منه بعد أن يشعر أن أمره قد افتضح، إلا أن يدخل صف المعلمة في المدرسة لينتحر وهو يعترف لها بحبه.
عودة متواصلة لمتن مميز
بين "الجزار" و"الاحتفال" هناك في الرصيد المميز لتراث شابرول السينمائي، نحو عشرة أفلام أخرى تعطي– كما أشرنا– فكرة متنوعة عن سينما شابرول، معيدة إلى الواجهة هذه السينما التي تدهشنا أرقام شباك التذاكر المسجلة على مدى عقود إذ تفيدنا بالتجاور في أعلى السلم وأسفله بين أفلام لشابرول شديدة التفاوت فنياً. فمثلاً في المرتبة الأولى يأتي "دكتور بوبول" من بطولة جان بول بلموندو، وهو فيلم جماهيري يتسم بالسذاجة وكتب خصيصاً من أجل بلموندو الذي كان في قمة شعبيته في ذلك الحين (1972)، بأكثر من مليوني مشاهد، يليه مباشرة فيلم "أبناء العم" الأكثر تجريبية بين أفلام شابرول بمليون وثمانمئة ألف مشاهد. أما في أسفل الترتيب فيأتي فيلمه الأكثر طموحاً "أيام هادئة في كليشي" عن العلاقة في باريس الثلاثينيات بين الكاتب الأميركي هنري ميللر ومواطنته الشابة أناييس نين، إلى جوار فيلم "دم الآخرين" الذي حقق عام عرضه 1984 واحداً من أكثر ضروب الفشل التجاري في مسار شابرول مع أنه من بطولة الأميركية جودي فوستر التي كانت من أبرز نجوم الشباك على الصعيد العالمي في ذلك الحين!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سينما للمرأة عن المرأة
مهما يكن، فإن "سيرج الجميل" الذي كان الأول في سينما شابرول لا يزال يعتبر حتى اليوم واحداً من أهم أفلامه على رغم إنكاره هو له! ثم هناك "المفتش لافادان" الذي حققه شابرول عام 1986 كنوع من التتويج السينمائي لسلسلة تلفزيونية حققها من حول مغامرات وتحقيقات المفتش نفسه (وقام بالدور جان بواريه)، ثم "الجحيم" يليه تباعاً فيلمان من أنجح أفلامه وأكثرها تعبيراً عن مناخاته وكون سينماه أحياناً سينما نسائية خالصة: "التيوس" و"المرأة الخائنة" وهما حققا تباعاً عامي 1968 و1969 من بطولة زوجته ورفيقته الدائمة ستيفان أودران التي رافقته في معظم أفلامه الكبرى، ثم "الفتاة المقطعة قسمين" الذي سبقت الإشارة إليه، يليه "فليمت الوحش" (1969) ثم "زهرة الشر" (2003).