جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) بمثابة صدمة للأحزاب السياسية التابعة لوحدات "الحشد الشعبي"، إذ خسرت أكثر من نصف مقاعدها في البرلمان، فيما كان الفائز مقتدى الصدر، والذي قدم نفسه باعتباره معارضاً للولايات المتحدة وإيران. في ظل النتائج عمت الفوضى شوارع العراق، وتعرض رئيس الوزراء العراقي لمحاولة اغتيال، كما جاءت زيارة قائد الحرس الثوري الإيراني لبغداد، في سياق يبرز الدور الإيراني في التحكم في العملية السياسية على نحو ما حدث في 2003، المختلف الآن أنه في سياق خروج أهم خصوم إيران من العراق، فهل ستتخلى إيران عن سياسة الفوضى التي تديرها وفق قواعدها؟ وهل ستتيح للعراق اتباع نهج السياسة المستقلة النشطة التي يتبناها الكاظمي؟
فقد جاءت نتيجة الانتخابات على نحو زادت من مقاعد "كتلة الصدر"، وهي الأكبر في البرلمان المؤلف من 329 مقعداً، لتصل إلى 73 مقعداً، بدلاً من من 54 في البرلمان السابق، فيما انهار "تحالف الفتح" المنافس الرئيس لها منذ سنوات، والذي يضم الفصائل المرتبطة بالميليشيات المسلحة الموالية لإيران، إذ حصلت على 14 مقعداً نزولاً من 48، والتي كانت حصدتها في انتخابات عام 2018 بعد المشاركة في محاربة تنظيم "داعش" في العراق. كما جاءت الكتلة السنية في المرتبة الثانية، ما قد يمنح الأقلية السنية أكبر قدر من النفوذ تتحصل عليه منذ سقوط صدام حسين، وتشكيل إيران للنظام السياسي العراقي القائم على تعزيز الطائفة الشيعية بعد سقوط صدام حسين وزوال حزب البعث.
رد الفعل الداخلي
وبعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في 10 أكتوبر، نزل عديد من أنصار الميليشيات التي خسرت مقاعدها بالبرلمان إلى الشوارع، وادعوا أن الانتخابات تم تزويرها ضدهم. الفوضى التي صاحبت شوارع العراق ما بعد النتائج لم تقتصر فقط على تظاهرات الغاضبين، الذين نظموا اعتصامات بالقرب من المنطقة الخضراء في بغداد لأسابيع، بدعوى تزوير الانتخابات، بل أثار هجوم بطائرة من دون طيار على مقر إقامة رئيس الوزراء العراقي شبح استمرار العنف من قبل الجماعات والميليشيات العراقية.
وعلى الرغم من تأكيد رئيس الوزراء أنه لم يُصب بأذى في الهجوم، فإنه اعتبر من جانب بعض المسؤولين العراقيين ومنهم الرئيس العراقي، انقلاباً على النظام السياسي العراقي.
من المؤكد أن رئيس الحكومة العراقية الذي بعد أن أدى اليمين الدستورية في مايو (أيار) 2020، وبعد أشهر عدة من الفراغ الحكومي، بعد استقالة الحكومة السابقة في أواخر عام 2019 بسبب الاحتجاجات الحاشدة في وسط العراق وجنوبه، اتبع سياسة في الداخل والخارج مختلفة عن سابقيه ممن تحكمت إيران بشكل أو آخر في توليهم المنصب، فقد تعهد الكاظمي بوضع الجماعات المسلحة تحت سيطرة الدولة، كما انتهج سياسة خارجية عراقية نشطة تهدف إلى عودة العراق لمحيطه الإقليمي بشكل مستقل، وكان آخر مظاهرها مؤتمر دول جوار العراق.
وكما اعتاد الحرس الثوري أن يمثل أحد مظاهر التحكم الإيراني في العملية السياسية، إذ لعب سابقاً قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، دوراً بارزاً في الفترة التي تلت سقوط نظام البعث، فكانت له علاقة بالوساطة بين الفصائل المتنافسة، واشترك في كل مناقشات الحكومة العراقية، فكان لإيران دور في اختيار نوري المالكي رئيساً للوزراء، كما حرصت على تعيين أعضاء في الحرس الإيراني أو مرتبطين به كسفراء لها منذ الغزو الأميركي للعراق. وفي انتخابات 2010، لعبت إيران دوراً في اختيار المالكي مرة أخرى على الرغم من فوز إياد علاوي، وذلك بعد اعتراض التحالف المدعوم من إيران على إياد علاوي، فدفعت لاختياره مجدداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتكرر التدخل الإيراني المرتبط بالانتخابات الآن في ضوء الأحداث الأخيرة في العراق، فقد وصل إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي، إلى بغداد مساء الأحد 7 نوفمبر (تشرين الثاني). وحضر قاآني اجتماعاً مع قادة الفصائل الشيعية المسلحة وقيادات في قوات "الحشد الشعبي" لبحث تداعيات فشل اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والذي لاقى تنديداً إقليمياً ودولياً، وربما سعى قاآنى من خلال زيارته إلى تنسيق التحالفات السياسية في فترة ما بعد الانتخابات.
التخوفات من التدخل الإيراني في العملية الساسية بلورتها كذلك تغريدة مقتدى الصدر عن ضرورة "عدم التدخل" في قرارات مفوضية الانتخابات العراقية ولا الضغط عليها - داخلياً أو من دول أجنبية.
لماذا التدخل الإيراني في العملية السياسية؟
اعتادت إيران توظيف استراتيجية متعددة الأبعاد لتنفيذ سياستها الخارجية، وأحد هذه الأبعاد هو الأداة السياسية التي وظفتها إيران لتقديم الدعم لحلفائها، والذي قدمته من خلال أشكال متعددة ومتنوعة، باختلاف الظروف الذاتية والداخلية لكل حالة. وفي الحالة العراقية، وظفت الأداة السياسية عبر بناء نظام سياسي حليف والتحكم في العملية السياسية. وتتجلى فاعلية الأداة السياسية في الحالة العراقية على نحو كبير، إذ عملت إيران على تعزيز نفوذها السياسي في العراق من خلال آليتين، الأولى هي التحكم في العملية السياسية، والثانية دعم الميليشيات والأحزاب الشيعية الموجودة في العراق. وفي هذا السياق، اعتمدت إيران على الأحزاب التي اتخذت من إيران منفى لها في زمن صدام حسين، وعادت للعراق بعد إطاحته. فتوطدت علاقاتها بإيران تنظيمياً وفكرياً وعاطفياً، ما جعلها النواة الرئيسة للدور الإيراني فيما بعد، حيث عملت على ما يلي:
- تأييد إعادة تأسيس نظام الحكم على أساس طائفي:
أدركت إيران أن أفضل طريقة للتحكم في العملية السياسية بالعراق هي ضمان تصعيد وتمكين الشيعة في عراق ما بعد الغزو الأميركي من خلال الانتخابات، حيث تم تشكيل الجمعية الوطنية التي هيمن عليها الشيعة. وقد أسهم خيار دعم العملية السياسية في تقريب المسارين الإيراني والأميركي، وخلق مساحات الوفاق بينهما. وسعت إيران عبر النظام البرلماني إلى دعم حلفائها من الشيعة، فشجعتهم على الترشح ضمن قوائم محددة في انتخابات 2005، معتمدة على المتغير الديموغرافي الذي سيرجح النتيجة لصالح الأغلبية الشيعية، بالتالي تأتي حكومة شيعية صديقة لها، فدعمت قائمة "التحالف العراقي الموحد" الذي قوامه من الشيعة، بالدعاية وإدارة الانتخابات وتقديم الدعم المالي. وحثت العراقيين النازحين على العودة إلى موطنهم للتصويت في الانتخابات، وبالفعل فاز "التحالف العراقي الموحد" بأغلبية مقاعد البرلمان. وتشكل التحالف من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراقي و"حزب الدعوة"، وكلاهما على علاقات تاريخية جيدة بإيران منذ اتخذ قياداتهما من إيران منفى لهم في عهد صدام حسين. ودفع تحكم إيران في العملية السياسية ونتيجة الانتخابات التي فاز بها التحالف الشيعي، ثم ممارسات رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري، إلى أن أعادت الولايات المتحدة تقييم سياستها داخل العراق، فسعت للاقتراب من الكتلة الكردية والسنية.
- تدخل إيران لضمان أن يتولى الحكم في العراق نخبة موالية لها:
وفي ظل العملية السياسية المدارة من قبل إيران، تشكلت هيئة المساءلة والعدالة، وهي هيئة من شأنها البت في أوراق المرشحين للاستحقاقات الانتخابية في العراق، وتولت مسؤوليتها شخصيات لها ارتباط بإيران. وفي عام 2010 أصدرت قائمة تضم نحو 570 اسماً تم استبعادهم من الانتخابات لارتباطهم بحزب البعث، وهو مسعى كان الهدف منه اجتثاث البعثيين من الحياة السياسية. وقد كان القرار متزامناً مع زيارة وزير الخارجية منوشهر متقي للعراق.
إن التدخل الإيراني لهندسة النظام السياسي العراقي منذ 2003، كان في ظل الوجود الأميركي في العراق، الأمر الآن مختلف، فالقوات الأميركية ستخرج من العراق في نهاية العام الحالي، وهو ما يعرض العراق لفوضى ورغبة شديدة في السيطرة من جانب إيران والميليشيات التابعة لها، والتي لها وجود في البرلمان والقوات الحكومية، لا سيما في ظل خروج أشد خصوم إيران في العراق، وهي الولايات المتحدة، وهو ما لا تريد إيران التخلي عنه.