من الطبيعي أن نطرح سؤال: لماذا مهنة التمريض تبدو وكأنها حكر على النساء؟ أو لماذا لا يعمل رجال كثر في التمريض؟ وهذه محاولة اكتشاف مسار انطلاق المهنة وتحولها إلى نسائية.
الرجال في الحرب والنساء للعناية
الجواب الأول والبديهي الذي يتبادر إلى الذهن أن الرجال يذهبون إلى الحروب للقتال، فتقوم النساء بمداواتهم من الجروح أو من الأمراض الكثيرة التي تصيبهم وتنتقل عدواها بينهم خلال المعارك الطويلة والحروب المديدة التي قد تطول إلى سنوات.
وهكذا تحول ما بدأ كمساعدة على تطبيب الجرحى والمصابين في الحروب رويداً رويداً إلى مهنة احترافية، اكتسبت النساء فيها كثيراً من المعرفة والمعلومات من خلال التجربة، وتحولت المهنة إلى اختصاص يدرس في الجامعات في أنحاء العالم، وتتخرج منه سنوياً عشرات الآلاف من الممرضات اللواتي يسيطرن على هذ المهنة، ومعهن قلة من الممرضين الذكور الذين بدأوا أخيرا بالالتحاق بهذه المهنة ولو بخجل، بعدما وصمت هذه المهنة بالأنوثة والنساء.
الحرب الأهلية الأميركية
هذه هي الإجابة البديهية عن هذا السؤال، لكن كيف سار الأمر تاريخياً؟ لنبدأ مع الحرب الأهلية الأميركية. في تحقيق منشور في مجلة "التاريخ" الأميركية history، فإن الإحصاءات أشارت إلى أنه من بين 620 ألف حالة وفاة عسكرية خلال الحرب الأهلية، كان نحو الثلثين ماتوا بسبب المرض. إذا لم تقتل الرصاصة جندياً فإن التهاب جرح قد يكون قاتلاً أيضاً. وهناك الأمراض المعدية التي انتشرت في الخنادق الرطبة، التي تعج بالجرذان والحشرات وانتقلت إلى المستشفيات الميدانية، ومنها إلى المستشفيات الثابتة، وأدت إلى وفاة آلاف الجنود والعاملين في المجال الطبي أيضاً. فباتت هناك حاجة ماسة في المستشفيات إلى متطوعين يقدمون المساعدة. فتطوعت النساء بكثافة. وهكذا بدأت القصة مع الممرضات.
بعد انتهاء الحرب الأهلية الأميركية واصلت النساء العمل في المجال الطبي. وبحلول عام 1900 مثلن 91 في المئة من العاملين في مجال التمريض.
تطور مهنة التمريض
يقول ستانلي بيرنز، الجراح والمؤرخ ومؤسس The Burns Archive، "لم تكن الجراحة جزءاً من التدريب الطبي لكثير من الناس. وكان الشرط الوحيد لتصبح طبيباً هو الحصول على تدريب مهني مع طبيب وبعض الدورات التدريبية". وبالمثل لم يكن هناك تدريب محدد للممرضات اللواتي تطوعن في المستشفيات الحربية، لذا فإن معظم ما يعرفونه عن التمريض اكتسبوه أثناء العمل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن، قبل ممرضات الحرب الأهلية الأميركية كان هناك تجربة الممرضة البريطانية فلورنس نايتنجيل، التي عملت على تدريب الممرضات خلال حرب القرم في خمسينيات القرن التاسع عشر، وسعت إلى هذا التدريب بإرادة حديدية متحدية العقلية الذكورية السائدة حينذاك، وساعدت في تأسيس مهنة التمريض في بريطانيا، وأثرت في النساء الأميركيات اللواتي جارينها في الحرب الأهلية.
لكن، الشكل الذي يجب أن تكون عليه الممرضة وطريقة عملها وتعاملها مع المرضى ومعاينتهم ومراقبتهم طوال النهار، وكل ما يتعلق بقواعد عمل الممرضات كانت قد وضعتها في عام 1861 دوروثيا ديكس التي عينها الجيش الأميركي أول مشرفة على الممرضات. وكانت قواعدها تطلب الممرضات بين سني الـ 35 والـ 50 على أن يتمتعن بصحة جيدة.
سيطرة النساء
بعد سيطرة النساء على مهنة التمريض، وبعد تحولها إلى مهنة رسمية يجري تعليمها في كليات متخصصة، دخل في إطار عمل الممرضات تثقيف المريض في ما يتعلق بالتغذية وبمرضه وكيفية متابعة الأدوية ومراقبة حالته، وكانت الممرضات مسؤولات عن الاستحمام وإدخال القسطرة وصرف الأدوية وإعطاء الحقن الشرجية والحفاظ على نظافة غرفة المريض وتعقيم غرف العمليات، وتوثيق كل ما يتعلق بمرضاهم في لوائح مكتوبة.
وبعد تطور التقنية في الآلات الطبية الموزعة في أجنحة المستشفيات من التصوير الشعاعي إلى آلات غرف العمليات والغرف العادية للمرضى ومن ثم المختبرات، أضيف التعامل مع هذه الآلات وإدارتها بشكل صحيح إلى عمل الممرضات، وتنوعت وظائف الممرضات أنفسهن، فتخصصن بالعمل داخل غرف العمليات لمساعدة الأطباء الجراحين بإجراء العمليات، وتخصصن في المختبرات والفحوص المطلوبة من المرضى على أنواعها، ثم تخصصن في إدارة آلات التصوير الشعاعي أو الصوتي وغيرها، والباقيات هن ممرضات الغرف اللواتي يعتنين بالمرضى من خلال مراقبتهم على مدى اليوم. وهكذا تشعبت مهنة التمريض نفسها، ولم تعد الممرضات كتلة واحدة متشابهة يقمن بالعمل نفسه.
ماذا عن الرجال؟
لكن، ماذا لو طرحنا السؤال بشكل معاكس، أي لماذا لا يزال عدد الرجال الممرضين منخفضاً؟ إيما فير جونز ستحاول في بحثها اكتشاف الأسباب المحتملة لهذا التناقض بين الجنسين.
وبحسب ما جاء في بحثها، فإنه وفقاً لأحدث إحصاءات صادرة، تبين أن واحداً من العاملين في مهنة التمريض من بين كل عشرة هو ذكر. وهو رقم ظل ثابتاً خلال العقود القليلة الماضية. وبحسب استفتائها للممرضين الذكور حول السبب أجاب أكثرهم أن الأمر ينبع من افتقار الجمهور إلى المعرفة حول ما تفعله الممرضة أو الممرض داخل المستشفى، والصورة دائماً لدى هذا الجمهور أنثوية، في اعتقاد مسبق ومكرس، ما يردع الطلاب الذكور من الانضمام إلى هذا الاختصاص. "فالتصور العام هو أن الممرضة شخص لم يجد عملاً آخر، وأن كل ما تفعله هو غسل الناس".
ومن العوائق الأخرى التي قد تمنع بعض الرجال من دخول المهنة مسألة الأجور. في حين أنه من الواضح أن كلاً من الرجال والنساء يواجهون نفس المستوى المنخفض من الراتب في هذه المهنة، إلا أن هذا الأمر يؤثر في الرجال كثيراً، خصوصاً أنه بات معروفاً وشائعاً أن الرجال يحصلون على رواتب ومنح وترقيات أعلى من النساء في كل أنواع المهن والوظائف.
لكن في كل الأحوال يرى المسؤولون عن أقسام التمريض في المستشفيات حول العالم أنهم لا يجدون مشكلة بأن الذكور قلة بين الطاقم التمريضي، ولا يشكل هذا الأمر بالنسبة إليهم أي عائق أو يضعهم في حال عجز وظيفي.