لو اعتقدتم يوماً أن عملية الخروج من أوروبا أو بريكست "قد تمت"، أعيدوا التفكير في الأمر. استعدوا أيضاً لعام آخر بقضه وقضيضه من مفاوضات بريكست في 2022 يلوح في أفقه طيف مألوف: سياسة الوقوف على شفير الهاوية وقوامها احتمال عدم إبرام اتفاق [ينظم عملية الانسحاب والعلاقات بالسوق الأوروبية الموحدة والسوق الجمركية].
بوريس جونسون ينظر إلى بروتوكول إيرلندا الشمالية، والذي يحول دون قيام حدود فعلية مع جمهورية إيرلندا الشمالية، على أنه عمل لم يكتمل بعد. حلفاء جونسون يقولون إنه مستعد حتى من حيث المبدأ إلى اللجوء إلى ما تعتبره بروكسل "الخيار النووي"بتفعيل البند السادس عشر من البروتوكول والذي يسمح بعدم الالتزام ببعض بنوده ويصفها المسؤولون البريطانيون من جهتهم بأنها بمثابة "ضربة جراحية" [دقيقة]. اللجوء إلى البند السادس عشر سيترجم رفعاً لكثير من القيود على حركة نقل البضائع من المملكة المتحدة إلى إقليم إيرلندا الشمالية. ويعتزم جونسون أن يظهر للأوروبيين أن ذلك لا يضع السوق الموحدة العزيزة عليهم في مهب الريح، بالتالي ستوافق بروكسل في النهاية على قيام الحدود التجارية الافتراضية التي تطالب بريطانيا بقيامها.
المشكلة تكمن في أن جونسون كان قد وافق على قيام حدود تجارية حقيقية في البحر الإيرلندي في 2019. فإما أنه لم يكن يفهم معنى ذلك، كما يعتقد بعض المسؤولين في أوساط وايتهولWhitehallالحكومية في لندن، أو أنه كان ومنذ البداية عازماً على تمزيق الاتفاق بعد الانتخابات العامة حين كان يحتاج إلى الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي لتهدئة المخاوف البريطانية من "خروج بلا اتفاق". أو ربما الإثنان معاً. وكما قال لنا دومينيك كامينغز (المستشار السابق لجونسون) لم تكن لدى رئيس الوزراء [البريطاني] في حينه أي فكرة عن فحوى الاتفاقية، وأن مقر الحكومة في عشرة داونينغ ستريت كان عاقد العزم دائماً على إلغائها (في مرحلة ما).
نظرية كامينغز تتوافق مع ما يردده المسؤولون الأوروبيون في بروكسل عنالمفاوضات الحالية الجارية بين ديفيد فروست وزير شؤون بريكست البريطاني وماركوس سيفكوفيتش، نائب رئيسة المفوضية الأوروبية. سيفكوفيتش قدم عرضاً مغرياً الشهر االماضي يسمح بتخفيف تأثير الإجراءات الحدودية، ولكنه الآن تحول من "فريق الحمائم إلى الصقور" [الأكثر تشدداً] لأنه استنتج أن ديفيد فروست لا يقبل على تلك المفاوضات بنية حسنة. "إنه يريد إعادة تركيب اتفاقية بالكامل على رغم أنه كان قد وقع عليها قبل عامين"، كما يقول مصدر أوروبي. "إنه عمل عدواني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيفكوفيتش مقتنع أن جونسون كان قد قرر تفعيل البند السادس عشر بعد أيام، وهو قام بإطلاع السفراء الأوروبيين على هذا الأمر. يوم الجمعة، سيقوم سيفكوفيتش بتوجيه إنذار لـ فروست عن التبعات الخطيرة لمثل تلك الخطوة. "نحن جاهزون وكل الخيارات مطروحة على الطاولة" يقول أحد الديبلوماسيين الأوروبيين. وتضم تلك الخيارات فرض التعرفة الجمركية (ربما على قطاع صناعة السيارات والويسكي) أو تعليق العمل بكل الاتفاقية التجارية الأوروبية- البريطانية – أو أغلب بنودهاوالتي لن تدخل حيز التنفيذ قبل عام من الآن ولكن من شأنها إنهاء العمل بما يعرف باتفاق "لا تعرفة ولا محاصصة"، لو فشل الطرفان في التوصل إلى تسوية.
مثل هذه الاحتمالية قد تؤدي لتداعيات مخيفة على القطاع التجاري البريطاني، والذي يعاني أصلاً من مشكلات في سلسلة الإمداد تسببت بها جائحة كورونا وأيضاً بريكست. فقطاع الأعمال يحتاج للاستقرار بدلاً من حال عدم اليقين الذي قد تحمله 12 شهراً إضافية من مفاوضات بريكست.الاستثمارات في المملكة المتحدة والشركات الأجنبية الحيوية لرؤية جونسون لاقتصاد يضمن "الرواتب المرتفعة، والمهارات العالية والإنتاجية الكبيرة"، سيتأثر سلباً بالتأكيد نتيجة ذلك. وستتأثر سلباً أيضاً توقعات النمو التي ارتكزت عليها أرقام موازنة (وزير الخزانة) ريشي سوناك. القطاع التجاري في إقليم إيرلندا الشمالية يتمنى أن يكون البروتوكول فعالاً [تدور عجلته] وأن لا يُلغى. ففرض التعرفة على ما يُستورد في إيرلندا وبقية الدول الأوروبية (من بريطانيا) سيكون كارثياً. تمزيق اتفاق عمره لا يتجاوز أحد عشر شهراً منذ دخوله حيز التنفيذ من شأنه إلحاق الضررعلى المستوى الدولي بمكانة "بريطانيا العالمية" وبعلاقة بوريس جونسون بالرئيس الأميركي جو بايدن. الصين وروسيا ستتمتعان بــ "حرب دبلوماسية" بين "الحلفاء" الأوروبيين.
ولكن وعلى الرغم من كل هذه الجوانب السلبية، يبدو رئيس الحكومة متمسكاً بالمضي قدماً بتطبيق خطته. ويجادل معاونوه أن مقترحات سيفكوفيتش لا ترقى إلى المستوى الجيد المطلوب كما يدعي، وقد تخفض إجراءات الكشف على السلع الغذائية بنسبة 10 في المئة فقط بدلاً مننسبة الـ 80 في المئة التي تطالب بها لندن.
الطرفان يلعبان على ما يبدو "لعبة الدجاجة" game of chicken [شد حبال من دون رابح]، فكل منهما يعول على تراجع الطرف الآخر في مرحلة ما أولاً، ولكن من شأن ذلك أن يؤدي إلى ترجيح مواجهة غير ضرورية ومدمرة للطرفين، والتي ربما أصبحت حتمية [لا مفر منها].
على الرغم من أن مقر الحكومة في عشرة داونينغ ستريت ينفي ذلك، هناك جانب من كيان رئيس الوزراء (بوريس) جونسون يستمتع بتقريع بروكسل (وأوروبا ككيان)، وهذه كانت علامته التجارية المسجلة خلال عمله كصحافي، وهو يعتقد أن ذلك يزيد من شعبيته بين مناصريه من الناخبين المؤيدين للخروج والذين صبوا كل دعمهم لصالحه في انتخابات 2019. لكن ذلك قد يكون استنتاجاً بليداً. فالكثير ممن دعم حزب المحافظين (أو توريز Tories)، "لإنجاز اتفاقية بريكست" لم يكونوا متحرقين للخروج من الاتحاد الأوروبي بقدر ما كانوا يودون مجرد وضع حد لملحمة (أن نخرج أم لا نخرج من أوروبا) التي استمرت إلى ما لا نهاية. كثير من هؤلاء لن يستسيغوا عاماً آخر من المفاوضات حول اتفاقية كان من المفترض أنها كانت معدة وجاهزة للتناولoven-ready في 2019 (كما ادعى جونسون أكثر من مرة).
أداء اللورد فروست يدفع بعض النواب إلى الاعتقاد أنه هو من يجر المملكة المتحدة إلى حافة هاوية جديدة. لكن مقربين من المطبخ الحكومي في وايتهول Whitehall يقولون لي إن فروست هو الشرطي الرحيم في المعادلة والذي يتبع أوامر الرجل القاسي في أعلى سلم القيادة، أي جونسون. وهذا قد يعني أن الأشخاص الوحيدين الذين قد يكونون قادرين على تلافي حرب كارثية بين المملكة المتحدة وحلفائها الطبيعيين هم الوزراء المطيعين في حكومتة. لذلك لا أنصح بالتعويل كثيراً على ذلك.
إذاً، الأمر يعود لجونسون نفسه. فعليه دراسة المستنقع الذي يزداد عمقاً بعدما دخله [خصوصاً] إثر محاولته الفاشلة لإنقاذ النائب (المتهم بالفساد) أوين باترسون Owen Paterson. في تلك المناسبة، استخدم بوريس حوالي إثني عشر نائباً من عتاة المؤيدين لبريكست الذين شتتوا الأنظار عن فضيحة دفاع الحزب عن نائب متهم بالفساد. تلك المجموعة ذاتها قد يسعدها أيضاً أن يتخذ جونسون خيار الحرب بدل السلام مع الاتحاد الأوروبي. وحري به أن يتعلم الدرس من فضيحة باترسون وأن يتحقق قبل القفز (نحو الهاوية) من جديد.
© The Independent