جاء المشهد الدرامي للانسحاب الأميركي من أفغانستان، صيف العام الجاري، ليفتح الباب واسعاً أمام التكهنات الخاصة بتراجع القيادة الأميركية على الساحة العالمية، في وقت يتحدث فيه العالم حول فراغ القيادة الدولية، وأفول العالم أحادي القطب الذي تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي.
فقبل أكثر من عامين وخلال المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس، في سويسرا، في يناير (كانون الثاني) 2019، حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، من أن "العلاقة بين أهم ثلاث قوى، وهي روسيا والولايات المتحدة والصين، لم تكن أبداً مختلة كما هي اليوم"، قائلاً "لم نعد نعيش في عالم ثنائي القطب أو أحادي القطب، لكننا لسنا بعد في عالم متعدد الأقطاب. نحن نعيش في عالم أصبحت فيه التحديات العالمية مجزأة أكثر فأكثر، والتعامل معها مجزأ أكثر فأكثر. إذا لم يتم تغيير ذلك، فهذه وصفة لكارثة".
غياب القيادة
لم يمض عام على وصف الأمين العام للأمم المتحدة للمشهد العالمي حتى وقعت كارثة "كوفيد-19"، لتظهر ترجمة واقعية لما كان يعنيه غوتيريش، إذ تعاملت بلدان العالم مع الجائحة بنهج أحادي منعزل، من خلال الابتعاد عن بعضها بعضاً بدلاً من اتخاذ خطوات لمعالجة الأزمة معاً. كما تجلى ذلك أيضاً في عملية توزيع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، إذ انتقدت منظمة الصحة العالمية مراراً عدم المساواة "المعيب" في توزيع اللقاحات عالمياً.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إن "التوزيع غير العادل للأدوات المنقذة للحياة، بما في ذلك التشخيص والأوكسجين ومعدات الوقاية الشخصية واللقاحات، أدى إلى انتشار جائحة ذات مسارين". وأوضح أنه على الصعيد العالمي، "تم إعطاء 5.5 مليار جرعة لقاح، ولكن تم إعطاء 80 في المئة منها في البلدان ذات الدخل المرتفع والمتوسط".
طالما ألقى كثيرون باللوم على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، الذي اتسمت سياساته الخارجية بالانعزالية، بخاصة عندما أصدر قراره بتعليق المساهمة المالية للولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية رداً على ما اعتبره تواطؤ المنظمة مع الصين في التكتم على انتقال الفيروس بين البشر، بسبب انتظارها طويلاً قبل الإعلان رسمياً عن الأمر. وهو ما دفع بانتقادات ومخاوف واسعة داخل المعسكر الغربي بشأن قفز الصين للهيمنة على المنظمة وغيرها من المؤسسات الدولية لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، وهي المخاوف نفسها التي تشغلهم حالياً بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، مما يمنح روسيا والصين الفرصة للهيمنة في آسيا الوسطى.
وقبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي، كان يتوقع مراقبون تخلي الولايات المتحدة عن منظمة التجارة الدولية، التي تشكل ركيزة النظام التجاري الدولي، إذا ما فاز ترمب بولاية رئاسية ثانية، إذ كان يعول كثيرون على من يفوز في الانتخابات، بغض النظر عن وجود جائحة أو غيابها، في تحديد مستقبل النظام العالمي.
ضعف التحالفات
على الرغم من رحيل ترمب، بقي المشهد الدولي مفتتاً، فتحالفات اليوم أصبحت أكثر ضعفاً من ذي قبل، وربما أبلغ دليل على ذلك الشرخ الواقع في العلاقة بين الولايات المتحدة وفرنسا بعد أزمة صفقة الغواصات النووية لأستراليا وتحالف "أوكوس" الذي استبعد منه حلفاءه الأوروبيين. فالتحالف الدفاعي الجديد الذي ينطوي على مجالات تعاون تتعدد بين تقنيات الأمن الإلكتروني والذكاء الصناعي والقدرات البحرية تحت الماء والصواريخ فوق الصوتية، أدى إلى تخلي أستراليا عن صفقة بقيمة 66 مليار دولار لشراء غواصات فرنسية تعمل بالديزل، إذ أعلنت كانبيرا عن خطة لبناء ما لا يقل عن ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية باستخدام التكنولوجيا الأميركية والبريطانية في شراكة أمنية ثلاثية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية وإعلان التحالف الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، أسفر عن غضب فرنسي، بل أوروبي أوسع، إذ اتهم كبار قادة الاتحاد الأوروبي الرئيس الأميركي جو بايدن بعدم الولاء للتحالف عبر الأطلسي، وطالبوه بتوضيح سبب تضليله فرنسا وشركاء أوروبيين آخرين بشأن إقامة شراكة استراتيجية جديدة مع المملكة المتحدة وأستراليا في المحيطين الهندي والهادئ. وقال رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشال للصحافيين في نيويورك، على هامش الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، "مع إدارة جو بايدن الجديدة، عادت أميركا... ماذا يعني أن أميركا عادت؟ هل عادت أميركا إلى أميركا أم في مكان آخر؟ لا نعرف". وذلك في إشارة إلى التصريحات الأميركية عقب انتخاب بايدن.
اعتبر المراقبون أن التحركات الأميركية الأخيرة على صعيد إنشاء تحالفات مثل "أوكوس" و"قواعد"، هي بداية لتغيير مشهد التحالفات الدولية في ظل تنافس أميركي صيني محموم. ويشيرون إلى أن الانقسامات المتزايدة بين اللاعبين الرئيسين في المشهد الدولي مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وربما الهند، أدت إلى فراغ قيادي.
نظام دولي جديد
بحسب مراقبين تحدثوا لـ"اندبندنت عربية"، فإن العالم يتأرجح بين أحادية القطب والاتجاه نحو نظام جديد. ففي حين لن تقبل الولايات المتحدة بترك موقعها كقوة مهيمنة في الشؤون العالمية، لكن في الوقت نفسه، هناك حديث متزايد عن "عالم ثنائي القطب"، تكون فيه الولايات المتحدة والصين قوتين مهيمنتين، فضلاً عن حقيقة أن هناك طبقة ثانية من البلدان والجهات الفاعلة التي لا تزال لاعباً مهماً في النظام الدولي.
ويقول إميل أفدالياني، أستاذ العلاقات الدولية لدى جامعة تبليسي في جورجيا، إن المشهد الحالي لا يوصف بتراجع غربي أو أميركي، بل يمكن وصفه باعتباره انتشاراً متساوياً نسبياً للقوة في جميع أنحاء العالم. ويتوقع أن يتجه العالم نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث تلعب الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي و(بدرجة أقل) روسيا دوراً حاسماً على المسرح العالمي.
يرفض ديفيد دي روش، كبير الباحثين لدى المجلس الوطني للعلاقات العربية – الأميركية في واشنطن، والأستاذ لدى مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية، فكرة تراجع القيادة الأميركية. وأشار في هذا الصدد إلى بعض الأمور التي أوعزت بذلك، لكنها ليست ذات معنى جاد على هذا المنحى، فالخطاب السياسي المحلي (الذي يشبه السيرك) على مدى السنوات الست الماضية، ومشهد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان ربما جعلت البعض يعتقد أن الولايات المتحدة تسير نحو التراجع، لكن الأدلة التاريخية تقول عكس ذلك.
وسرد دي روش بعضاً من الوقائع خلال تسعينيات القرن الماضي، التي دفعت بالحديث عن انتهاء عصر الهيمنة الأميركية أو العالم أحادي القطب، بداية من انهيار جدار برلين ومروراً بسحب الجنود الأميركيين من الفيليبين عام 1992 بعد ثوران بركان جبل بيناتوبو، وكذلك الانسحاب الأميركي من الصومال عام 1994 بعد الهزيمة في معركة مقديشو، أو ما يُعرف بـ"سقوط الصقر الأسود"، حيث سقطت مروحيتان أميركيتان من طراز "بلاك هوك" بأسلحة الميليشيات المتطرفة، وصولاً إلى عام 1999 عندما انسحبت الولايات المتحدة من منطقة قناة بنما، وفي جميع هذه الأحداث ضج الحديث عن نهاية عصر القوة الأميركية.
واستدعى البروفيسور الأميركي ما يُعرف بتأثير "راتشيت" (السُّقاطة)، فيقول إنه إذا وطأت أقدام الجنود الأميركيين أي مكان على وجه الأرض، فإن انسحابهم يُنظر إليه باعتباره تراجعاً في القوة الأميركية وترك فراغ، مضيفاً "عندما تنسحب الولايات المتحدة من منطقة ما، لا يمثل ذلك بالضرورة خطوة نحو التراجع، بل اعترافاً بأن الأمر لا يستحق التكلفة، وأن مواردنا من الأفضل استثمارها في مكان آخر".
النفوذ الاقتصادي
ومع ذلك، فإن الصين تركز على ترسيخ نفوذ اقتصادي عالمي يناطح الهيمنة الأميركية على منظمات الأمم المتحدة المتخصصة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فمن خلال مبادرة الحزام والطريق، تعمل بكين على توفير التمويل لمشروعات بنية تحتية عملاقة تربط آسيا وأفريقيا وأوروبا، عبر بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية، كما أسست منظمة "شنغهاى للتعاون"، التي تضم مجموعة من ثمانية أعضاء بينهم روسيا وباكستان، واستأجرت أو اشترت عديداً من الموانئ البحرية في جميع أنحاء العالم من أجل ترسيخ مكانتها. وبدأ عديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة، مثل الدول الأوروبية وإسرائيل، في الارتباط بمشروعات كبرى وتوسيع علاقاتها مع الصين. وبالنسبة إلى عديد من الدول الأفريقية والشرق أوسطية، فإن الصين واحدة من أقرب شركائها الاقتصاديين.
ويقول دي روش إنه أثناء الحرب الباردة، قامت الكتلتان المتنافستان بإنفاق كثير في المساعدات الخارجية والعسكرية في محاولة لكسب النفوذ في الدول الصغيرة والمتوسطة، "فعلى سبيل المثال، لولا الحرب الباردة، لما تم بناء السد العالي في أسوان!".
ويضيف أنه في حين تبرز الصين كلاعب مهم في البناء والتنمية في الخارج، بخاصة في أفريقيا، فإن مشروعاتها تختلف بشكل كبير عن نموذج الحرب الباردة القديم. ويوضح أن المشروعات الصينية في الخارج تهدف بشكل عام إلى خدمة أهداف محددة وإعادة الربح إلى الصين، وفي بعض الحالات يتم البناء بأيادي العمال الصينيين أنفسهم، الذين يبقون بعد الانتهاء من المشروع. ومن ثم فإن هذا النوع من الربح يحد من التأثير الصيني في الخارج.
توازن القوى
تذهب الآراء نحو تشكيل نظام عالمي جديد يتجه نحو توازن القوى، فتقول مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية، المتخصصة بالتحليلات الأمنية والسياسية، إن الولايات المتحدة تعمل بالفعل في عالم متعدد الأقطاب وليس ثنائي القطب، مشيرة إلى طبقة ثانية من اللاعبين المؤثرين على النحو الإقليمي، الذين بإمكانهم استغلال أي تراجع أميركي للصعود في محيطهم، ومثال على ذلك الترحيب الإيراني بالخروج الأميركي من أفغانستان.
ووفقاً لأفدالياني، فإن النظام العالمي الذي يتشكل في الأفق هو نظام هرمي يدور فيه كل شيء حول الصين والولايات المتحدة، لكن هناك مستوى آخر من الفاعلين مثل روسيا والهند والاتحاد الأوروبي، ستعكس قراراتهم المصالح الأوسع للولايات المتحدة والصين. كما ستنشط دول أخرى أصغر، مثل إيران وتركيا والهند، اقتصادياً وعسكرياً. ما يعني أن كلاً من هؤلاء الفاعلين سيحاولون بناء مجال نفوذ حصري في جوارهم. فمن الناحية الهرمية، ستهيمن واشنطن وبكين، وسيكون هناك لاعبون مهمون آخرون في اللعبة الناشئة لاستراتيجيات توازن القوى.
ويقول دي روش إنه على الرغم من حقيقة أن الصين وروسيا انتهازيتان وتسعدان دائماً بالاستفادة من أي ثغرات أو مصائب لدى الولايات المتحدة، وأن إيران تطمح إلى أن تكون القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، لكن تظل الحقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال القوة الحيوية والبلد الوحيد الذي يتطلع إليه الجميع باعتباره الضامن الأمني. وأضاف أنه بينما يطمح الآخرون إلى التحرك إقليمياً وتعكير صفو المياه في مناطق أبعد، لكن قدرات الولايات المتحدة لا تزال منقطعة النظير.
بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن إجمالي النفقات العسكرية العالمية خلال عام 2020 بلغ 2 تريليون دولار، مثل نصيب الولايات المتحدة منها 778 مليار دولار، ما يعني استمرار الجيش الأميركي كقوة عظمى على الساحة الدولية.