نسخة جديدة من فيلم الهجرة غير الشرعية، تدور أحداثها هذه المرة على أراضي لبنان وبيلاروس وتركيا. أما الأبطال فهم مواطنون ولاجئون، يئسوا تلقي الوعود بـ"غدٍ أفضل"، فكان المخرج بالنسبة لهم، مهرباً مجهول الهوية، ومساعده جهاز "جي بي أس".
أما الطابع التراجيدي، فيقوم على التساؤل بشأن ما إذا كانت بلدان الشرق الأوسط أصبحت فعلاً غير قابلة للحياة الكريمة؟ وبالتالي ما الذي يدفع شباناً وعائلات لقطع آلاف الكيلومترات في قارب منهك، أو سيراً على الأقدام لعبور الغابات؟ هل هم مدفوعون بالأمل أم أنهم سائرون خلف وهم "الحياة الأبدية الكريمة"؟ ومن أجل ذلك، لا يوفر هؤلاء أي طريقة للهجرة سواء كانت عبر رحلات شرعية من مطار بيروت إلى إسطنبول أو مينسك أو بواسطة قوارب غير شرعية يتقاسم الركاب ثمنها، ويعهدون إلى أحدهم مهمة القيادة.
مما لا شك فيه أن عوامل ذاتية وموضوعية تدفع بهؤلاء إلى ركوب الخطر للوصول إلى أوروبا، وقد أسهمت حالة اللااستقرار التي تعيشها بلدان مثل: لبنان، وسوريا، والعراق، وأفغانستان، وإيران ودول أفريقية عدة وغيرها، في دفع مواطنيها إلى الهجرة أو الهرب نحو دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا، وتحديداً ألمانيا. لكن قبل الوصول إلى الوجهة الأخيرة، يتعرض هؤلاء إلى مخاطر عظيمة، البعض تتم إعادته إلى بلاده، فيما ينجح آخرون في الوصول بعد بذل المال والصحة، أو حتى التوقيف والإذلال. وشهدت الأيام الأخيرة، توقيف خفر السواحل حوالى 61 شخصاً، بعد أن انطلقوا بقاربهم من طرابلس في شمال لبنان نحو الجارة الأقرب، جزيرة قبرص.
"مجموعة الثمانية"
في الأسبوع الماضي، وصل محمد، وهو شاب سوري ثلاثيني، ورفاقه السبعة، أخيراً، إلى ألمانيا، بعدما خسر نصف وزنه، واختبر تجربة الموت والحياة مرات عدة على جانبَي الحدود البيلاروسية - البولندية. وقال: "عندما وصلت إلى ألمانيا نسيت كل التعب الذي تعبته، وبدأت صفحة جديدة للحياة الكريمة، لأن الوضع الاقتصادي في لبنان أصبح مدمراً، كما أن العودة إلى سوريا غير ممكنة". إلا أن الحديث مع محمد، يؤكد عمق أثر هذه الرحلة في نفسه، فهو انطلق منذ حوالى الشهرين من بيروت إلى مينسك بطائرة تابعة لشركة "فلاي دبي". حجز مقعده في مكتب للسفريات في بيروت، واشترى تذكرة ذهاب وإياب مع فيزا نظامية، إضافة إلى حجز فندقي في العاصمة البيلاروسية. حمل أمتعته ومشى. وصل إلى هناك مع مجموعة من الأفراد، وبدأ التواصل مع "مهرب مجهول الهوية"، بحسب وصفه. بعد أيام عدة، أمن المهرب نقل محمد ومجموعة من الشبان إلى منطقة تقرب من الحدود البولندية بحوالى 10 كيلومترات.
المسار الخطر داخل الغابات
عبر هؤلاء نحو منطقة الغابات الكثيفة، اعتمدوا على أجهزة الـ"جي بي أس" في تحديد وجهتهم نحو بولندا. وروى الشاب السوري أن "السلطات البيلاروسية ألقت القبض عليهم مرات عدة، وأعادتهم إلى مراكز لتجميع اللاجئين". وأضاف "كان تعامل السلطات البيلاروسية عنيفاً جداً، لم يقتصر على الضرب، وإنما تم تجريدنا من أمتعتنا ورمينا في مياه النهر الشديدة البرودة".
في مراكز التجميع، التقى محمد أشخاصاً من جنسيات مختلفة، الأغلبية جاؤوا من العراق وأفغانستان، ولكن هناك أناساً من اليمن، وسوريا، ولبنان، وباكستان، وإيران، ومصر حتى من أفريقيا، وبيلاروس نفسها، الجميع يحاولون عبور الحدود نحو بولندا ومن ثم إلى ألمانيا.
واختبر محمد تجربة النوم في العراء، أمضى حوالى الشهر في الغابات، في ظل برد شديد ونقص في الطعام، حيث استعانوا طوال تلك الفترة بإشعال النار. لكن الإصرار حملهم إلى تكرار محاولة الهروب عشرات المرات، وكانوا "يواصلون الليل بالنهار سيراً على الأقدام"، "ولشدة كثافة الأشجار لا يمكن تمييز الوقت، وحدها الشاشة المربوطة بالـ(جي بي أس) تشير إلى الاقتراب من بولندا"، موضحاً أن الـ"باور بنك" (أجهزة تخزين الطاقة) "شكلت الوسيلة لإبقاء الهواتف مضاءة، فكل واحد جهز نفسه بجهازين للشحن على الأقل".
بولندا محطة جديدة
بداية، لم تنجح محاولة اجتياز حدود بيلاروس، لذلك حاول الشبان الالتفاف مراراً على الإجراءات الحدودية، إلى أن جاءت الليلة المفصلية، التي أوصلتهم إلى بولندا. وقال الشاب السوري "تعلمنا من تجاربنا السابقة، وتعرفنا إلى أماكن أبراج التعقب والمراقبة. لذلك، اختارت المجموعة موقعاً وسطاً بين نقاط وجود حرس الحدود البولندية، وانتظرت إلى أن تحين الفرصة وحلول الظلام الدامس". وزحف الشبان أرضاً لمسافات طويلة، إلى أن تمكنوا من تجاوز الحدود البولندية والمراقبة. وعادوا مجدداً إلى السير في الغابات بواسطة الـ"جي بي أس" انطلاقاً من نقطة تحميل، حددها لهم المهرب الذي يعتقد أنه مقيم في إسطنبول، لأنهم حولوا إليه المال إلى هناك، حوالى 4500 دولار لقاء تهريب الشخص الواحد، بعد أن كانت في السابق 2700 دولار.
وفي هذا الصدد، أوضح محمد أن "دفع البدل يكون من خلال التشييك والشيفرة، عند الوصول إلى ألمانيا أو الوجهة الأخيرة، يتم إرسال مقطع صوتي لأحد الأشخاص بأن يتم دفع المال للشخص الذي ساعدنا في الوصول".
بعد مسير مضن لحوالى 23 كيلومتراً في يوم واحد، وصلت المجموعة المؤلفة من 8 شبان إلى المكان المتفَق عليه مع المهرب، الذي تم تحديده عبر الـ"جي بي أس" ليصبحوا داخل بولندا. هناك بدلت المجموعة ملابسها، ورمت أمتعتها، وتوزع أفرادها على سيارتين. وتابع محمد "كانت الإجراءات الأمنية في بولونيا شديدة للغاية، إذ اضطر الشبان إلى الاختباء تحت المقاعد لاتقاء أنظار القوى الأمنية والتوقيف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووصلت السيارات إلى أحد الفنادق في منطقة سالتك، حيث أمضى الشبان ليلة واحدة لقاء 25 دولاراً للشخص، قبل أن يبدأوا رحلة البحث عن الحلم الألماني.
الوجهة المفضلة: ألمانيا
بعد ذلك، قام "المهرب" بتأمين سيارة لنقل المجموعة إلى ألمانيا. وبعد عبور أحد الجسور، دخلت المجموعة الأراضي الألمانية في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الأراضي الألمانية، حيث خضع أفرادها لفحص طبي، وتلقوا اللقاح المضاد لفيروس كورونا ولقاحاً ضد الأنفلونزا، وتم نقلهم إلى مركز إيواء (كامب) لقضاء فترة الحجر الصحي. وتستمر إقامة الأشخاص في "الكامب" إلى حين مثولهم أمام المحكمة في ألمانيا على مرحلتين، حتى منحهم الإقامة المؤقتة كلاجئين. وقال محمد "عندما عبرت الحدود، ارتحت، ونسيت كل التعب السابق"، معتبراً أن "هذه الرحلة تستحق المخاطرة لأن الواقع المعاش في مناطق الشرق الأوسط لا يُحتمل". وهو يخطط للعمل، وتعلم اللغة، وصولاً إلى لم شمل عائلته المؤلفة من 5 أشخاص والمقيمة في لبنان. وقدر كلفة هذه الرحلة بـ8 آلاف دولار "من أجل الوصول إلى ألمانيا، وبدء حياة جديدة".
لبنانيون عالقون في تركيا
منذ حوالى أسبوع، شاعت أنباء عن غرق قارب يحمل على متنه عشرات الشبان من الجنسيتين اللبنانية والسورية مقابل السواحل القبرصية، لتستعيد طرابلس الذكرى الأليمة مع غرق أحد القوارب في سبتمبر (أيلول) 2020. وانعكس هذا الخبر صدمة على عدد كبير من العائلات في شمال لبنان. ظن هؤلاء أن أبناءهم، لقوا حتفهم، إلى أن قام بعض الشبان بالاتصال بأهلهم لإبلاغهم بأنهم موقوفون لدى السلطات التركية.
أحمد السيد أحمد (24 سنة)، هو أحد هؤلاء الشبان الذين ركبوا قوارب الهجرة غير الشرعية نحو قبرص وتركيا واليونان، من أجل العبور إلى أوروبا، إذ حملهم اليأس لبيع ما لديهم من أملاك ومدخرات لدفع حوالى 5 آلاف دولار للهروب. باع الشاب سيارته، وأخبر عائلته بأنه ينوي الهجرة، وافقت العائلة على مضض لأن "الوضع الاقتصادي صعب للغاية، وقد تكون الهجرة سبباً لبدء حياة أفضل، وتأسيس عائلة والإنفاق عليها". وكان الانهيار الاقتصادي ألقى بثقله على الشاب الذي يمتهن حرفة الصياغة وصناعة الذهب، إلا أن ارتفاع سعر صرف الدولار عصف بمهنته كسائر المهن.
وما إن انقطع الاتصال بالشبان، حتى عاشت عائلة السيد أحمد حالة من الاضطراب والخوف، إذ ظنت لثلاثة أيام أن ابنها قد غرق. وما زاد من حالة الهلع أنه "الشاب الوحيد في العائلة".
واعتصمت مجموعة من أهالي هؤلاء، الجمعة 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أمام منزل رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في مدينة الميناء طرابلس، للمطالبة بجلاء مصير أبنائهم والتواصل مع الجهات المختصة في قبرص وتركيا لتحديد الجهة التي أحبطت رحلتهم، وإطلاق سراحهم وإعادتهم إلى وطنهم.