يحاول "حزب الله" اللبناني أن يقلل من أهمية التهمة الموجهة إليه بالهيمنة على القرار السياسي اللبناني، والتي هي أحد أسباب الأزمة مع السعودية ودول الخليج العربي، وموقفها من السلطة السياسية في البلد، ليدافع عن تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي حول حرب اليمن، وليصطنع لنفسه صورة "المظلومية" لعلها تخفف من اتساع رقعة الاعتراض اللبناني على فرضه سياسات ومواقف وتوجهات على مركز القرار والدولة.
هذا ما حاول القيام به الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه الخميس في 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، ولقي ردود فعل سلبية لا سيما من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في أكثر المواقف وضوحاً حيال مصادرة الحزب القرار اللبناني، خلال عظته يوم الأحد 14 نوفمبر، مكرراً دعوته إلى حياد لبنان.
بات "حزب الله" على الرغم من فائض قوته العسكرية يحتاج إلى أساليب دعائية وسياسية دفاعية في الداخل اللبناني، من أجل أن يواصل سياسته الهجومية التي يعتمدها كإحدى أدوات التدخلات الإيرانية في ميادين القتال العربية. وهو يسعى بهذا الأسلوب إلى خفض النقمة على مساهمة سياساته في التسبب بالأزمة الاقتصادية المالية الخانقة، وبتأخير المعالجات المطلوبة لها، وبتردد المجتمع الدولي في تقديم المساعدة المطلوبة لإخراجه منها، فضلاً عن شبه العزلة العربية في التعاطي معه.
بين "المظلومية" والاعتداد بالقوة
وفي اعتقاد الذين راقبوا سردية قادة الحزب في الأيام الماضية، ولا سيما منذ حادثة الطيونة الدموية بين مناصريه الذين حاولوا دخول منطقة عين الرمانة المسيحية بالسلاح تحت عنوان التظاهر لإقالة المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ، وبين مناصري بعض الأحزاب المسيحية، يعتمد دعاية مزدوجة تجمع بين لغة المظلومية لاستدرار عطف جمهوره، وبين التهديد بالقوة ضد الأطراف المحلية التي تخاصمه، وتقف في وجه فرضه إرادته بالقوة. فالحزب الذي يعيش على تعظيم ما يعتبره "الانتصارات" الكبرى في الحروب التي يشترك فيها في الإقليم، من أجل استخدام هالة تفوقه العسكري في السياسة الداخلية لبنانياً، بات يحتاج إلى إظهار بعض "التواضع" بزعمه تفضيل التهدئة، لتبرير بعض المواقف، منها تشدده حيال الموقف الخليجي، ورفضه استقالة الوزير قرداحي كبادرة حسن نية وكمدخل يقترحه بعض الوسطاء، ومنهم جامعة الدول العربية، لتمكينهم من إقناع الرياض والعواصم الأخرى ببدء حوار حول الشكاوى من لبنان.
حاجة الحزب إلى هذه السردية المزدوجة فرضها أولاً توسع النقمة الشعبية التي حملت قيادات سياسية كانت هادنته في السنوات الأخيرة على رفع الصوت ضد فرضه إرادته، منها زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، فضلاً عن منظمات المجتمع المدني ومجموعات "ثوار 17 تشرين". هذا بالإضافة إلى تجنب حليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مجاراته في رفض استقالة قرداحي، وفي الحملة على السعودية، وقبلهما مطلب إزاحة المحقق العدلي طارق البيطار.
أما العامل الثاني الذي يحمل الحزب على اعتماد حملة دعائية مزدوجة بين المظلومية والاعتداد بالقوة، فهو تزايد التململ من أضرار مواقفه والتحاقه الكامل بمشروع إيران التوسعي في المنطقة على الوضع الاقتصادي في لبنان، وسط جمهوره الشيعي الذي تسبب الانهيار الاقتصادي بإفقار شريحة واسعة منه، على الرغم من التقديمات الاجتماعية المدعومة إيرانياً (مثل استيراد 3 بواخر من المازوت والبنزين من طهران) التي سعى عن طريقها إلى التخفيف من معاناة هذا الجمهور.
تمايز بري عن سردية نصر الله
ويسجل المراقبون في بيروت حصول تمايز بين سردية الحزب وبين لغة حليفته حركة "أمل" ورئيس البرلمان نبيه بري حيال الأحداث الأخيرة. فبري وقادة الحركة امتنعوا عن مواكبة الحملة التي قادها نصر الله على حزب "القوات اللبنانية" واتهامها بأحداث الطيونة، واكتفوا بالمطالبة بإنزال العقوبات بالذين تسببوا بمقتل 7 من مناصري الثنائي الشيعي. وحاول بري مع البطريرك الراعي تسويق اقتراح مخرج لمعاودة اجتماعات مجلس الوزراء، يقضي بإقرار الحكومة والسلطة القضائية بأن محاكمة الوزراء والنواب الذين يلاحقهم قاضي التحقيق في جريمة المرفأ أما المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي يتشكل من نواب وقضاة، وبتشكيل لجنة تحقيق برلمانية في شأن إهمال بعض الوزراء في شأن انفجار المرفأ، فيما أصر الحزب على استقالة القاضي طارق البيطار. وفي الأزمة مع دول الخليج ابتعد بري ونواب حركة "أمل" عن الحملات الإعلامية على السعودية والدول الخليجية، وكانوا يميلون إلى استقالة قرداحي، لفتح باب المعالجات معها، فيما لم يترك الحزب مناسبة إلا وهاجم فيها هذه الدول ودافع عن قرداحي رافضاً استقالته. وفي هذا التمايز تعبير عن إدراك بري مدى صعوبة تسويق النهج الذي اعتمده الحزب، على الرغم من عدم مجاهرته باختلاف توجهاته عنه، لأسباب تتعلق بوحدة الطائفة وبعدم قدرته على تعديل ما تفرضه التزامات الحزب في سياق الصراع الإيراني - الخليجي، والإيراني - الأميركي.
في خطابه الأخير حاول نصر الله أن "يعوض" لجمهوره ومناصري حلفائه عن تردي أحوالهم المعيشية المتدهورة، بإبراز "القلق الإسرائيلي من الحرب مع لبنان" والحزب مستدلاً بالمناورات الإسرائيلية المتواصلة مع القوات الأميركية لمحاكاة تلك الحرب، مقارنة مع "قلق الناس في لبنان حيال المشتقات النفطية، وسعر الوقود، والمازوت، والبطالة، وقلق الدولار"... وهو بذلك يدغدغ مشاعر هذا الجمهور بالعداء لإسرائيل، وبأن قوته العسكرية قادرة على حماية الجنوبيين منها، محاولاً إقناعهم بأن الضائقة الاقتصادية تأتي في المرتبة الثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نسف موافقة الرؤساء على تسوية الحدود البحرية
وما نفي هيمنة الحزب على لبنان بحجة أنه لم يستطع إقالة القاضي البيطار، ولم يتمكن من إفراغ بواخر المشتقات النفطية في أحد الموانئ اللبنانية، ولم يقنع السلطة بالاستعانة بإيران والصين لمعالجة أزمة الكهرباء... إلا محاولة لحجب الأنظار عن الضغوط والتهديدات التي وجهها الحزب قبل نحو شهر للقضاء، "بقبع" القاضي من مركزه، وفرضه تعليق اجتماعات مجلس الوزراء إلى أن يتحقق مطلبه.
ويختصر بعض خصوم الحزب سرديته بنفيه الهيمنة من جهة والتشدد من جهة أخرى، بأنه ينطلق من الحسابات الانتخابية، مع تمهيد الفرقاء لدخول موسم الانتخابات المنتظرة في آخر مارس (آذار) المقبل، والتي سيخسر فيها بعض حلفائه لا سيما "التيار الوطني الحر" عدة مقاعد بسبب سياسة الرئيس عون وصهره رئيس "التيار" النائب جبران باسيل، ما سيفقده الأكثرية، وسيضعف التغطية المسيحية لسطوته على القرار السياسي في البلد.
وهو بسرديته المزدوجة يخاطب أيضاً الجمهور المسيحي الذي بقي مع عون وباسيل، بعد إعراض جزء لا بأس به عنه، جراء التصاقه بالمشروع الإقليمي للحزب وتسببه بتقاقم الأزمة الاقتصادية.
كما أن إشارته إلى أن حزبه منع الهيمنة الأميركية الكاملة على لبنان، لكنه لم يستطع أن يمنعها في بعض المجالات، جاءت من أجل تبرير موقف مستجد برفض ما سماه الإملاءات الأميركية في ترسيم الحدود البحرية، باعتباره "أمراً سيادياً" يوازي بأهميته رفض الإملاءات الخارجية بإقالة الوزير قرداحي.
فنصر الله سبق أن ترك مسألة التفاوض على الحدود البحرية "للدولة اللبنانية والحكومة" أثناء زيارة الوسيط الأميركي في هذا الملف قبل 3 أسابيع آيموس هوكستين، والذي حصل من عون وبري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على موافقتهم على إعادة التفاوض حول "اتفاق الإطار" الذي كان توصل إليه بري مع الجانب الأميركي في أكتوبر 2020 ومضمونه البحث في طلب لبنان الحصول على الـ 864 كيلومتراً مربعاً في البحر، المتنازع عليها مع إسرائيل، وفق الخط البحري 23، بدل مطالبة الوفد اللبناني العسكري المفاوض بالحصول على 1430 كلم مربعاً إضافية وفق الخط البحري 29. وبهذا الموقف يلوح نصر الله باسم "السيادة" بوجه الجانب الأميركي بنسف التفاهمات التي حصلت مع هوكستين، إذ قال إن الأميركيين "يضحكون على لبنان بتسوية خط ما يسمّى بخط هوف" (أي جزء من الـ 864 كلم مربعاً).
خلص نصر الله في مطالعته إلى أن "من تعبيرات السيادة والاستقلال هو رفض الإملاءات الخارجية" بطلب استقالة قرداحي، معتبراً أن الاستجابة لذلك "إذلال وإهانة للبنان"، سائلاً عن الكرامة الوطنية، معتبراً "رد الفعل السعودي على تصريحات قرداحي مبالغاً".
الراعي يرد: الكرامة ليست بالعناد
شكل حديث نصر الله عن السيادة مادة تعليقات تستهجنه، خصوصاً نفيه مشاركة الحزب في حرب اليمن. فالأمين العام السابق للحزب الشيخ صبحي الطفيلي المعارض لقيادته منذ سنوات بعد أن انشق عنه، اعتبر كلامه "نكتة سخيفة"، مشيراً إلى أن الحزب لا يتصرف إلا وفق الإملاءات، وأن من يتحدث عن السيادة "يدوسها بقدميه".
لكن رد الفعل الأبرز جاء من البطريرك الراعي الذي انتقد التلكؤ عن معالجة الأزمة الحادة مع دول الخليج، وشدد على أن "حل هذه الأزمة بشجاعة وطنية، لا يمس كرامة لبنان، بل إن تعريض اللبنانيين للطرد والبطالة والفقر والعوز والعزلة العربية هو ما يمس بالكرامة والسيادة والعنفوان".
أضاف الراعي: "الكرامة ليست مرتبطة بالعناد إنما بالحكمة، وبطيب العلاقات مع كل الدول وبخاصة مع دول الخليج الشقيقة، ذلك أن دورها تجاه لبنان كان إيجابياً وموحداً وسلمياً، لا سلبياً وتقسيمياً وعسكرياً. ولا يحق لأي طرف أن يفرض إرادته على سائر اللبنانيين ويضرب علاقات لبنان مع العالم، ويعطل عمل الحكومة، ويشل دور القضاء، ويخلق أجواء تهديد ووعيد في المجتمع اللبناني. ولا يحق بالمقابل للمسؤولين، كل المسؤولين، أن يتفرجوا على كل ذلك، ويرجوا موافقة هذا الفريق وذاك. هذا هو فقدان الكرامة وهذا هو الذل بعينه".
وسأل الراعي: "ما لنا بحروب المنطقة وبمحاورها؟ ما لنا بصراعاتها وبلعبة أنظمتها؟ ما شأننا لنقرر مصير الشعوب الأخرى فيما نحن عاجزون عن تقرير مصيرنا"؟
وانتهى إلى اعتبار دعوته إلى حياد لبنان الحل الوحيد، مشيراً للمرة الأولى إلى أنه "بات متعذراً إنقاذ الشراكة الوطنية من دون الحياد. وكلما تأخرنا في اعتماد هذا النظام كلما تضررت هذه الشراكة ودخل لبنان في متاهات دستورية".
بهذا الكلام انتقل الراعي في انتقاداته لضغوط الحزب على السلطة السياسية كي تتبنى خياراته، إلى مستوى جديد من الوضوح في معارضة سياسته من دون مراعاة، بحسب قول مصادر مقربة من البطريركية. فالراعي قرر في ظل الأزمة الراهنة أن يسمي الأشياء بأسمائها وسيكون موقفه تصاعدياً بعد الآن. وهو دق بذلك ناقوس الخطر حيال إصرار "حزب الله" على تطويع السلطة السياسية على الرغم من معارضة فئات واسعة من اللبنانيين لفرضه الانحياز إلى المحور الإيراني، وما يسببه ذلك من دعوات تقسيمية وفيدرالية.