مع بشائر كل خريف جديد، يبدأ صيادو الطيور في ليبيا رحلة التربص الموسمية بالطيور المهاجرة، هرباً من برد أوروبا شمالاً إلى دفء القارة السمراء جنوباً، وينتهي موسم الصيد هذا مع تزايد زخات المطر إيذاناً بإطلالة الشتاء الليبي في ديسمبر (كانون الأول).
ومن بين كل الطيور العابرة من ليبيا إلى الجنوب يتربص الصيادون بشكل خاص بأشهر طائر وهو الصقر، لأسباب لم تعد ذات علاقة بعشق الصيد ومحبة الصقور، بل أصبحت بحثاً عن كنز مهاجر، بات يساوي أرقاماً فلكية، مما جعل صيد جارح واحد باباً لطرد الفقر إلى غير رجعة.
بداية التربص
يقول الصياد الليبي أبو بكر الفيتوري "موسم الصيد بالنسبة إلى ما يعرف محلياً بالصقار، نسبة إلى التخصص في قنص الصقور، يبدأ مع أكتوبر حين تخوض الطيور بأنواعها، بخاصة الصقور، رحلة طويلة من أوروبا إلى القارة الأفريقية، مروراً بسواحل شمال أفريقيا، بخاصة ليبيا، التي تمتلك الشريط الساحلي الأطول في المتوسط، مما يجعل العدد الأكبر من الطيور المهاجرة يمر عبرها، ليجد الصيادين في انتظاره".
وأضاف، "تشمل الأنواع المهاجرة من الطيور خلال هذه الفترة الصقور والنسور البحرية والبرية والبط والأوز واليمام البري، وأنواعاً أخرى كثيرة من الطيور البحرية غير الصالحة للأكل مثل الفلامينجو والنوارس".
وعن الاستعدادات التي تسبق موسم الصيد يوضح الفيتوري أنه "شخصياً خلال هذه الفترة وزملاؤه ينصبون الخيام في مواقع تختلف من موسم إلى آخر، بحسب الطقس، فعندما يتأخر دخول الشتاء ويكون الجو دافئاً يتمركزون على مقربة من شاطئ البحر للترصد للأفواج الأولى من الطيور التي تصل إلى شواطئ ليبيا".
ويعدد الفيتوري الميزات التي يمنحها الموقع القريب من البحر، بقوله "إذا كان الطقس مناسباً فإن الموقع البحري يشكل ميزة، وهو أن الطيور التي تنجح في اجتياز الرحلة الطويلة وصولاً إلى اليابسة في ليبيا تصل منهكة وجائعة وتحلق على ارتفاع منخفض من فرط الإرهاق، مما يجعلها وقوعها في الشراك أو صيدها سهلاً".
الترصد في مواقع خلفية
ويشير الصياد الليبي إلى أن "هناك ظروفاً مناخية متعلقة بدخول الطقس البارد بشكل مبكر في أكتوبر ببعض السنوات، يجعلهم يختارون مواقع صحراوية لقنص الطيور المهاجرة، وهو موقع له ميزات وعيوب".
ويتابع موضحاً الميزات والعيوب، "في المواقع الصحراوية أحياناً يصعب إجبار الصقور على النزول إلى الفخ المنصوب على الأرض، لأنها تكون قد ارتاحت واقتاتت من الطيور على شواطئ ليبيا لإكمال رحلتها الطويلة، لكن لهذا الموقع الصحراوي ميزات أيضاً، إذ إن الرؤية تكون أوضح من السماء للطائر الجارح أو العادي، مما يجعل إغراءه بطعم أمراً أكثر سهولة".
طريقة نصب الفخاخ
الغريب أن الطريقة التي يجري بها صناعة ونصب الفخاخ للطيور المهاجرة، بخاصة الصقور، تتم يدوياً وبطرق بدائية لا تكلف 100 دينار ليبي (20 دولاراً أميركياً)، لقنص صيد ثمين اقتربت أسعاره من نصف مليون دولار في بعض الحالات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشرح عبد السلام الشريف، زميل أبو بكر الفيتوري في رحلات الصيد السنوية، طريقة إعداد ونصب الفخاخ، أو ما يعرف محلياً بـ "الشرك"، وتسمى هذه العملية كلها في ليبيا باسم "الرماكة"، قائلاً "يحضر الصياد حمامة ويعد لفافة من السلك الشائك تصنع بطريقة خاصة تحتاج إلى معرفة ومهارة حتى لا تؤذي الطير الجارح الذي يجري اصطياده، وتربط به الحمامة لإغراء الصقر وتوضع في مكان بعيد من المخيم ليراها الطير المهاجر، وعندها يتم الإمساك به بطريقة حذرة لكي لا يؤذي الطير للمحافظة على ريشه".
ويوضح أن هناك طريقة أخرى للصيد تختلف قليلاً، "هناك من يصطاد من طريق نوع من الطيور يطلق عليه محلياً اسم (أبورقيص) أو (بوشراقة)، تحبه الصقور وتوضع في قدمه المصيدة وعلى رأسه الكمامة حتى لا يشاهد شيئاً، ويتم وضعه بعيداً لتراه الطيور المهاجرة وتهاجمه، فتقع في الفخ المنصوب لها".
أبرز أنواع الصقور
تتعدد أنواع الصقور التي تمر بليبيا أو يجري اصطيادها، وبالتالي تختلف أثمانها بحسب أهمية النوع، ويقول الشريف إن من بينها أنواعاً نادرة هي التي نسمع عن أسعارها الباهظة في الفترة الأخيرة، يشرح "تمر بليبيا أو تعيش بها أنواع نادرة من الطيور من بينها بعض أنواع الشاهين الأشهر في العالم، وبعضها لا يهاجر بل يأتي إلى ليبيا للتزاوج طوال فترة الشتاء وحتى نهاية فصل الربيع".
ويركز الفيتوري على أهمية اللون في تحديد ثمن الصقر، "من أنواع الصقور التي تعيش في ليبيا أو تمر بها الصقر الأبيض وفي دول الخليج يسمونه بـ(الأشقر)، والبني الغامق ويسمونه في ليبيا بـ(الصقر الأربد)، وعادة ما يكون لونه بنياً فاتحاً، ويسمونه في دول الخليج العربي بـ(الأدهم)، والشاهين المعروف بنوعين، حر فرخ، وهو ما يسمونه محلياً بـ (الإبحارية الحرة)، وعندما يصل عمره إلى عامين وأكثر يسمونه بـ (الشاهين الحر)".
أغلى صقر في العالم
وشهد الموسم الحالي لصيد الصقور في ليبيا بيع أغلى صقر في العالم، حين اشترى تاجر ليبي صقراً بـ 450 ألف دولار، ومن النوع الذي يعرف باللهجة الدارجة بـ "الإبحارية"، وهو نادر من صقور الشاهين، وجرى صيده جنوب مدينة طبرق، وبيع بمبلغ 2.2 مليون دينار ليبي.
وقال التاجر الليبي محمد السعداوي الذي اشترى الصقر، إن "سعره يعتبر الأغلى في الوطن العربي بحكم متابعته لمجال الطيور في دول الخليج".
وبين أن "مقاس الطائر ووزنه الذي يبلغ 1250 غراماً، واللون الأبيض للريش من جهة الصدر، هو ما ميزه وجعله يصل إلى هذا السعر".
قلق المنظمات البيئية
تنامي ظاهرة صيد الطيور المهاجرة في ليبيا في ظل انتشار السلاح شكل قلقاً للمنظمات البيئية ودعاة حماية الحياة البرية، ولا تختص هذه الاحتجاجات بصيد الصقور فقط، بل تشمل اعتراضات على الصيد الجائر لكل أنواع الطيور المهاجرة.
وأعربت الجمعية الليبية لحماية الحياة البرية عن قلقها "إزاء تنامي ظاهرة قتل الطيور في ليبيا"، وقالت إن "غياب العقوبة الرادعة هو من جرأ المفسدين على العبث بالحياة البرية ومخالفة القوانين المحلية والدولية".
ونشرت الجمعية صوراً على صفحتها بموقع "فيسبوك" لعدد من طيور "الفلامنجو" الشهيرة التي جرى قنصها أثناء مرورها من ليبيا في رحلة الهجرة، ووصفت هذا العمل بأنه "قتل من أجل المتعة"، مطالبة بـ "محاربة هذه الجرائم ومنع انتشارها في المجتمع".
وطالبت الجمعية الجهات المعنية بحماية الطيور المهاجرة، وقالت إن "بنادق الصيادين في ليبيا أصبحت أشد خطراً عليها من أعداء الطبيعة، الأمر الذي قد يهدد بانقراض بعضها وتوقف هجرته عن سواحلها".