المرسوم الذي وقعه الرئيس فلاديمير بوتين مطلع الأسبوع الجاري بخصوص تقديم الدعم الإنساني لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك "غير المعترف بهما" على خلفية الحصار الاقتصادي الذي يتعرضان له، أثار ولا يزال كثيراً من الجدل داخل صفوف القيادة السياسية الأوكرانية، في الوقت الذي استقبلته جماهير دونيتسك ولوغانسك في منطقة الدونباس جنوب شرقي أوكرانيا بفرح شديد، على اعتبار أنه "اعتراف سياسي" من جانب موسكو، ومقدمة لانضمام غير معلن إلى روسيا.
من الدفاع إلى الهجوم
وكان الرئيس بوتين قد اختار الإعلان عن انتهاء مناورات الناتو في البحر الأسود على مقربة مباشرة من حدود وأراضي بلاده، موعداً للكشف عن هذا المرسوم الصادر تحت عنوان "حول تقديم الدعم الإنساني لسكان أراض معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا"، وهو ما اعتبره مراقبون سياسيون داخل أوكرانيا وخارجها مقدمة لتحول نوعي جديد من جانب الرئيس بوتين، وإشارة البدء صوب انتقال موسكو من مواقف الدفاع إلى سياسات الهجوم.
وأشارت مصادر الكرملين إلى أن قرار الرئيس بوتين بهذا الشأن جرى اتخاذه "بهدف حماية حقوق وحريات الإنسان والمواطن، وتقديم الدعم الإنساني لسكان أراض معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيتين، ومنع استمرار انخفاض مستوى العيش في ظروف الحصار الاقتصادي المتواصل وتدهور الأوضاع نتيجة انتشار فيروس كورونا".
ويقضي المرسوم أيضاً بتكليف الحكومة الروسية باتخاذ ما تراه من إجراءات استثنائية في غضون 30 يوماً للاعتراف بشهادات المنشأ الخاصة بالسلع والبضائع الصادرة عن الأجهزة العاملة بالفعل في أراضي المناطق التي أشار إليها هذا المرسوم.
وتداولت وسائل الإعلام الروسية تصريحات شبه رسمية تقول إن السلطات الأوكرانية هي التي بادرت بانتهاك اتفاقيات مينسك التي وقعها رئيس الجمهورية السابق بيتر بوروشينكو مع ممثلي دونيتسك ولوغانسك تحت رعاية المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقالت أيضاً إن الرئيس الأوكراني الحالي الذي سبق وأعلن التزامه بتنفيذ هذه الاتفاقيات، عاد ونكص عن وعوده.
وفيما أعربت القيادات السياسية والعسكرية في الجمهوريتين "الانفصاليتين" عن شديد ابتهاجها بصدور مثل هذا المرسوم، في مثل هذا التوقيت، سارعت السلطات الأوكرانية إلى دقّ نواقيس الخطر واعتبار المرسوم "تدخلاً كبيراً في الشؤون الداخلية لأوكرانيا"، بحسب نص البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأوكرانية.
وكان الرئيس الأوكراني السابق بوروشينكو في صدارة أولئك الذين سارعوا إلى انتقاد مرسوم الكرملين، فيما وصفه بأنه "صفعة على وجه كل من سعى بصدق إلى تسوية سلمية" على حد تعبيره.
وكتب بوروشينكو يقول بضرورة "أن تبادر أوكرانيا بطلب إلغاء هذا المرسوم، وإلغاء منطقة الروبل والقرارات المتعلقة بإصدار الشهادات، وكذلك عودة مؤسساتها". وأضاف "أن الوقت قد حان لتعزيز الوجود الدولي لحلفائنا في أوكرانيا. حان الوقت لدفع ثمن الجرأة الروسية بفرض عقوبات جديدة".
ومضى ليؤكد أنه في هذا السياق "يرحب ترحيباً صادقاً بحسم موقف برلين وباريس، الذي حذر موسكو بوضوح من (عواقب وخيمة) في حالة حدوث محاولات جديدة لتقويض وحدة أراضي أوكرانيا. أتوقع من الشركاء الآخرين أن يحذو حذوها. حان الوقت لوقف اعتماد مشروع التيار الشمالي- 2".
كييف تحتج
أمّا كييف الرسمية فقد أعلنت احتجاجها ضد مرسوم الكرملين من خلال بيان أصدرته وزارة الخارجية الأوكرانية تقول فيه "إن قرار بوتين يتعارض مع اتفاقيات مينسك والاتفاقيات التي جرى التوصل إليها في إطار (صيغة نورماندي)، كما أنه يعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية لأوكرانيا".
وأشارت الخارجية الأوكرانية في بيانها الصادر بهذا الشأن إلى أن "الأحداث التي نص عليها المرسوم تُظهر بوضوح سياسة روسيا الهادفة المتمثلة في سحب الأراضي المحتلة مؤقتاً من دولتنا إلى فضائها الاقتصادي والسياسي والانتخابي والإعلامي"، كما توجهت بالدعوة إلى موسكو من أجل تسوية الموقف عبر القنوات السياسية والدبلوماسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إزاء ذلك، لم تكن موسكو لترد إلا بما سبق وأعلنه الكرملين وكل المؤسسات الرسمية الروسية حول أنها ليست طرفاً في هذه "الأزمة" التي تصفها دائماً بـ "النزاع الأوكراني الداخلي"، وأن اتفاقيات مينسك لا تنص على أي "التزام"، تبدو موسكو مدعوة إلى الالتزام به أو تنفيذه.
وفي هذا الصدد عادت موسكو إلى تأكيد أن السلطات الأوكرانية هي المدعوة إلى تنفيذ ما نصّت عليه اتفاقيات مينسك وصيغة نورماندي.
ويذكر المراقبون في موسكو أن الجانب الروسي استبق الإعلان عن هذا المرسوم بسلسلة من التصريحات، التي منها ما تعلق باللقاء المحتمل بين الرئيس بوتين ونظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في الدونباس، الذي أعرب الرئيس الروسي عن استعداده لقبول لقائه في موسكو شريطة أن تقتصر المباحثات على العلاقات الثنائية بين روسيا وأوكرانيا.
أما في ما يتعلق بالأوضاع في "الجمهوريتين غير المعترف بهما" فقال بوتين إن أوكرانيا مدعوة إلى أن تناقشها مع قيادات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وليس مع ممثلي "بلدان ثالثة".
ومن اللافت في هذا الصدد أن بوتين استخدم وللمرة الأولى التسميات التي لا أحد يعترف بها، بما في ذلك روسيا، كما أشار بالاسم إلى قيادتي هاتين "الجمهوريتين"، وهما دينيس بوشيلين وليونيد باشنيك.
وعلى الرغم من أن ذلك لا يعد اعترافاً رسمياً، فإنه خطوة في الاتجاه المعاكس، يشير ضمناً إلى ما سبق وأشرنا إليه من موسكو حول تحوّل الرئيس بوتين من حالة "رد الفعل" إلى "الفعل" التي كان قد بدأها بإعلانه عن "ضم" شبه جزيرة القرم في عام 2014، استجابة لطلب مواطنيها، واستناداً إلى نتائج الاستفتاء الشعبي حول الانفصال عن أوكرانيا، وتأكيد رغبة الغالبية الساحقة من سكان القرم في الانضمام إلى روسيا، أو كما قالوا آنذاك "العودة إلى أحضان الوطن".
هل يتكرر مشهد القرم؟
وفي هذا الصدد، يمكن القول إن المسرح السياسي الإقليمي والعالمي، بدأ في تغيير ديكوراته استعداداً لمشهد جديد قد يكون مشابهاً لما سبق وانتفضت معه أوكرانيا وكل الدوائر الغربية لدى الإعلان عن "ضم روسيا لشبه جزيرة القرم"، وتغيير روسيا لدستورها من أجل النص على اعتبار القرم جزءاً لا يتجزأ من أراضي الدولة الروسية، وأن لا أحد يملك حق مناقشة شؤونها في غير إطار روسيا الاتحادية.
وبهذه المناسبة أعرب فلاديمير قسطنطينوف رئيس برلمان القرم عن شديد ابتهاجه بصدد مرسوم الرئيس الروسي بوتين بشأن الدعم الإنساني لمنطقة الدونباس، ووصفه بأنه "لحظة أساسية للاندماج مع روسيا".
وقال في معرض حديثه مع عدد من الصحافيين: "إن هذه لحظة مهمة. السوق الروسية تنفتح الآن أمامهم (مواطني جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك). كما أكد ما سبقه إليه آخرون كثيرون في معرض البرامج الإخبارية على القنوات الرسمية الروسية حول اعتبار المرسوم "خطوة على طريق تحقيق حلم أبناء المنطقة حول عودة دونباس إلى روسيا" على تعبيره.
وأضاف، "إننا نتحدث اليوم عن المزيد من اندماج الجمهوريات الشعبية في الفضاء الاقتصادي الروسي، لأن كييف لا تفي ولا تنوي تنفيذ خطة التسوية السلمية في دونباس". واستطرد رئيس برلمان القرم ليقول: "أريد حقاً أن أصدق أن هذه الحركة ستستمر في المستقبل القريب، وأن مواطنينا في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ستتاح لهم الفرصة لعيش حياة اقتصادية كاملة. وأنهم سوف يستعيدون بسرعة حياة طبيعية ومزدهرة في حياتهم المناطق".
دعم غربي
وعلى صعيد قريب، فإن ثمة شواهد كثيرة تقول إن قوى خارجية تعمل جاهدة من أجل تغيير المشهد الجيوسياسي للمنطقة. فإلي جانب عودة واشنطن وحلفائها إلى سابق مخططات "الثورات الملونة" مثلما فعلت في بيلاروس في صيف العام الماضي في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية ووقفت إلى جانب قوى المعارضة في احتجاجاتها ضد نتائج الانتخابات وعدم الاعتراف بها والمطالبة برحيل الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، يدخل حلف الناتو طرفاً رئيساً في المشهد الراهن من خلال "مساعداته" المباشرة وغير المباشرة إلى كل من جورجيا وأوكرانيا.
ولم تعد القوى الغربية لتتحرج كما في السابق الإعلان عن دعمها ومساعداتها العسكرية إلى كل من هاتين الجمهوريتين، بعد أن بدأت تشكيلات حلف الناتو تستخدم على نحو دوري البنية التحتية واللوجستية للجمهوريتين، تحت ستار التدريب تارة، والمناورات المتعددة الأطراف تارة أخرى، بما في ذلك التي جرت وتجرى على نطاق واسع مثلما حدث أخيراً بمشاركة البلدان المطلة على حوض البحر الأسود، وبعد مناورات الصيف الماضي على مقربة مباشرة من الحدود الروسية.
ويذكر المراقبون ما أعلنه دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، حول أن الرئيس بوتين أعرب عن قلقه تجاه ما يجرى على مقربة مباشرة من الأراضي الروسية، وأن القوات المسلحة الروسية تتابع كل ما يجرى في حوض البحر الأسود. ولعل ما اتخذه الكرملين من خطوات مواكبة ولاحقة لهذه المناورات يمكن أن يكون تفسيراً لصدور المرسوم الخاص بالجمهوريتين "الانفصاليتين"، وتعمد عدد من المعلقين ومقدمي البرامج الإخبارية المحسوبين على الكرملين تكرار التذكير باحتمالات اعتراف موسكو باستقلال هاتين الجمهوريتين رداً على صلف وتعسف السلطات الأوكرانية و"اعتداءات" قواتها المسلحة واستخدام الطائرات التركية المسيّرة ضد السكان المدنيين في كل من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
وكانت مصادر الناتو قد أعلنت عن توجه عدد من السفن الحربية، منها الأميركية، إلى ميناء باتومي في جورجيا على ساحل البحر الأسود قريباً من الحدود الروسية، بعد الانتهاء من مناورات الناتو. وذلك يؤكد ما سبق وأعلن عنه بوتين حول أن موسكو لم تعد تهتم كثيراً باحتمالات ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو، وهو الذي يُجرى تدريباته في هاتين الجمهوريتين ويزودهما بالكثير من أسلحته التي يتركها هناك بعد انتهاء المناورات، إلى جانب استخدامه للبنية التحتية هناك على أساس دائم.
ولعل كل ذلك وما سبقه وما قد يعقبه من خطوات في ذات الاتجاه، يمكن أن يكون تفسيراً لتحوّل الرئيس بوتين من الدفاع إلى الهجوم، أو كما ذكرنا، من حالة "رد الفعل" إلى "الفعل"، ربما بما يتسق مع ما سبق وأشار إليه في أحد مؤتمراته الصحافية ضمن ذكريات الصبا والشباب في شوارع لينينغراد. قال بوتين لقد تعلمنا منذ الصغر أنه "إذا فُرض عليك الشجار في معارك الشوارع، فلتكن أنت صاحب المبادرة بالسبق".