في ظل الاحتجاجات التي يشهدها الشارع السوداني هذه الأيام للمطالبة بإسقاط الحكم العسكري، رفعت السلطات السودانية، يوم الخميس 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أسعار المحروقات (البنزين والديزل) بمقدار 42 جنيهاً (0.09 سنت) للتر الواحد، ليصل سعر لتر البنزين إلى 362 جنيهاً (0.81 سنت)، والديزل 347 جنيهاً (0.77 سنت).
وتُعد هذه الزيادة الثانية من نوعها بعد رفع الدعم عن الوقود وتوحيد أسعاره في كل أنحاء البلاد في ديسمبر (كانون الأول) 2020، على أن يتم تحديد سعر البيع للمستهلك وفق الأسعار العالمية، حيث أوكلت عمليات الاستيراد التي تمثل 40 في المئة من الاحتياج الكلي للاستهلاك، إلى شركات القطاع الخاص.
وسبق أن تواصلت الارتفاعات المتكررة في أسعار المحروقات هذا العام، مع وضع الحكومة السودانية اللمسات الأخيرة على عملية رفع الدعم التدريجي لهذه السلعة من خلال اعتماد الأسعار العالمية، حيث تمت زيادة أسعار المحروقات للمرة الأولى منذ رفع الدعم نهائياً، في مطلع يوليو (تموز) الماضي، إذ قفز سعر لتر البنزين من 290 جنيهاً (0.65 سنت) إلى 320 جنيهاً (0.71 سنت)، في حين زاد سعر لتر الديزل من 285 جنيهاً (0.64 سنت)، إلى 305 جنيهات (0.68 سنت).
لكن، كيف ينظر الباحثون الاقتصاديون لهذه الزيادة، في ضوء موجة التظاهرات التي تعم العاصمة السودانية ومدناً أخرى في البلاد، وأثرها في أسعار السلع، وما يعانيه الاقتصاد السوداني بعد توقف المساعدات الخارجية بسبب الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) بإعلان حالة الطوارئ وتعطيل الوثيقة الدستورية، وحل أجهزة الحكم المدني؟
هامش الربح
في السياق، قال الباحث الاقتصادي محمد الناير، إنه "كان من الأفضل على السلطات المختصة في السودان ألا تُقبل على هذه الخطوة في هذا التوقيت وهذه المرحلة، بخاصة أن البلاد تعمل من دون حكومة، ومن دون رئيس وزراء، فكان يجب أن يُتخَذ هذا القرار بعد تشكيل الحكومة الجديدة، ودراسة التكلفة الفعلية على الوقود، كما كان يمكن امتصاص هذه الزيادة من خلال إلغاء الضرائب المفروضة على هذه السلعة الاستراتيجية والحيوية، فالمشكلة هي أن المسؤولين في الدولة لا يعون أن أي زيادة في أسعار المحروقات تنعكس على أسعار السلع بشكل كبير، نظراً لارتفاع كلفة النقل بسبب هذه الزيادة، فدائماً يكون أثر الزيادة على السلع كبيراً، مهما كانت زيادة سعر المحروقات، فإذا كانت بمقدار 5 في المئة، ترتفع الأسعار عموماً في الأسواق ما بين 20 إلى 30 في المئة، بالتالي يقع العبء الكبير على المواطن، بخاصة الفئة الفقيرة".
وأشار الناير إلى أن "ارتفاع أسعار الوقود ناتج من إطلاق الدولة سياسة استيراد المحروقات للقطاع الخاص، لذا لم يكن للحكومة السودانية سياسة في التحكم بعملية الأسعار، بالتالي يجب على الحكومة أن تتجه إلى استيراد الوقود بدلاً من القطاع الخاص للاستفادة من هامش الأرباح وتوجيهه لصالح المواطن من خلال تخفيض أسعار الوقود، لكن دائماً ما تلجأ الدولة إلى الحلول السهلة، ولا تحسن تقدير نتائجها الكارثية على المستهلك"، مبيناً أن "الزيادة في مجملها لا تبدو كبيرة، لكن أثرها على المواطن كبير جداً، بخاصة الديزل لأنه يؤثر في ارتفاع تكاليف الزراعة والصناعة وقطاع الخدمات بشكل عام والنقل خصوصاً".
ركود وإحجام
وزاد الناير، "بالتأكيد أن الأسعار ستشهد ارتفاعاً ملحوظاً، على الرغم من الركود الذي يضرب الأسواق حالياً، وهو ما صعّب تقبل أي زيادة في الأسعار، فمعظم الناس بات تركيزهم ينصب على الضروريات، بالتالي انحصرت حركة السوق في سلع بعينها، ما أدى إلى استقرار سعر الصرف لفترة طويلة، بسبب إحجام قسم كبير من التجار عن الاستيراد، إلا لسلع أساسية لا يمكن الاستغناء عنها".
وحول أثر هذه الزيادة في ما يجري من تطورات واحتجاجات في الشارع السوداني، أجاب الباحث الاقتصادي السوداني، "لا أعتقد أنه سيكون لهذه الزيادة أي تأثير يُذكر في الشارع، لأن أبعاد الاحتجاجات الحالية سياسية، كما أن الاحتجاجات في الأصل مستمرة، والمشاركين فيها غير مهتمين بأي جوانب أخرى اقتصادية كانت أم غيرها، فواضح أن الرسالة من الخروج إلى الشارع طابعها سياسي بحت، ولا علاقة لها بمطالب معيشية".
الطلب والعرض
في المقابل، اعتبر الباحث المالي والاقتصادي طه حسين، أن "زيادة أسعار الوقود جاءت وفق سياسة العرض والطلب استناداً إلى أسعار النفط العالمية، حسب سياسة تحرير الاقتصاد التي أدت إلى رفع الدعم عن المحروقات نهائياً، فمسألة تحديد أسعار المحروقات وفق هذه الآلية التي تعتمد على أسعار النفط عالمياً لا علاقة لها بوجود حكومة من عدمها، لكن وجود الحكومة له تأثير في حال كانت سياسة الدعم قائمة، بالتالي اتخاذ قرار زيادة سعر أي سلعة، بخاصة إذا كانت استراتيجية كالوقود، يأخذ في الحسبان الأثر السياسي".
وعن أثر هذه الزيادة الفئات محدودة الدخل، في ظل توقف برامج الدعم الأسري المقدم من الدول والمؤسسات المالية كالبنك الدولي، مثل برامج "ثمرات"، نتيجة لقرارات البرهان الأخيرة، أوضح حسين أنه "معلوم أن برنامج ثمرات يُعنى بفئات معينة، ولم يصل دعمه إلى كل الفئات، كما أنه لم يشمل كل ولايات السودان، كما أن المبلغ المحدد لا يغطي رمق أي مواطن، لكن المؤكد هو أن هناك تأثيراً سيلحق بالفئات الدنيا من جراء أي زيادة في المحروقات باعتبارها تشكل العمود الفقري في حياة الفرد اليومية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعا إلى "الاهتمام بمسألة الإنتاج والتصدير، لأنهما يشكلان المخرج الوحيد لأزمة البلاد الاقتصادية، ومن دونهما يكون أي حديث مجرد استهلاك سياسي، بخاصة في ظل ما يتمتع به السودان من مساحات شاسعة وصالحة لزراعة معظم المحاصيل المطلوبة في الأسواق الخارجية، فضلاً عن الذهب الذي ينتَج بكميات كبيرة، لكنه يحتاج إلى تنظيم".
رفع الدعم
وكانت آراء الاقتصاديين السودانيين تباينت في شأن قرار رفع الدعم عن المحروقات بين مؤيد ومعارض، لكنهم اتفقوا على تأثيره من ناحية إسهامه في تصاعد أسعار السلع بشكل كبير، ما يضاعف أعباء ومعاناة المواطن السوداني، بخاصة ذوي الدخل المحدود، الذين يمثلون الشريحة الأكبر من السكان البالغ عددهم حوالى 40 مليون نسمة، فضلاً عن التوقيت غير المناسب للقرار.
وأشار البعض إلى أن رفع الدعم عن الوقود "قرار خاطئ تماماً"، وكأن السلطة تهرب إلى الأمام، وقد أصابها العمى نظراً إلى تأثيرات هذا القرار، لأنه يزيد الطين بلة، إذ يؤدي إلى زيادة معاناة المواطنين التي وصلت إلى حدود صعبة للغاية.
من جهة ثانية، وصف آخرون قرار رفع الدعم عن الوقود بأنه "صحيح مئة في المئة من الناحية الاقتصادية"، لأنه يسهم في إزالة تشوهات كثيرة في الاقتصاد السوداني.
احتجاجات حاشدة
ويشهد السودان منذ إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قرارات 25 أكتوبر الماضي، موجة احتجاجات مستمرة للمطالبة بإزالة الحكم العسكري، حيث اعتبرت القوى السياسية التي كانت على رأس السلطة التنفيذية، وقطاع عريض من الشارع السوداني تلك القرارات بمثابة انقلاب عسكري على الشرعية الدستورية.
وسيّرت لجان المقاومة حتى الآن، ثلاث مسيرات حاشدة، كانت آخرها "مليونية 17 نوفمبر"، التي تعرضت منذ انطلاقها في الساعة الواحدة بعد الظهر إلى إطلاق الرصاص الحي والقنابل الصوتية، فضلاً عن الغاز المسيل للدموع، ما أدى وفق إحصائية لجنة أطباء السودان المركزية إلى سقوط 15 قتيلاً، وعشرات الجرحى بإصابات متفاوتة ما بين خطرة ومتوسطة وبسيطة وسط المحتجين.
ولم تفلح حتى الآن وساطات أجرتها جهات محلية وإقليمية ودولية، أبرزها واشنطن والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ودولة جنوب السودان، فضلاً عن شخصيات محلية، في إحداث اختراق يقرب وجهات النظر بين المكونين المدني والعسكري وصولاً إلى حل يتوافق عليه الطرفان، ويرضي الشارع السوداني الذي اعتبر ما حدث في 25 أكتوبر انقلاباً عسكرياً على الحكومة الشرعية برئاسة عبدالله حمدوك.