مع حلول فصل الشتاء في الجزائر، وبداية سقوط زخات المطر، تفقد القهوة في المدن الشمالية شعبيتها مؤقتاً لدى بعض عشاقها، تاركة المجال لأكواب الشاي الساخن، لتؤنس شاربيها، وتخفف عنهم برودة الطقس.
الشاي في اللغة الرسمية، و"آتّاي" في الاستعمال العامي الرائج عند الجزائريين، ركن أساسي في أي جلسة عائلة أو لمّة. يقول حمزة، من مدينة مشرية في ولاية النعامة، جنوب الجزائر، "تناول الشاي غير مقتصر على مناسبات أفراح أو أتراح، بل هو جزء من يوميات أي صحراوي، كما يعد رمزاً للكرم، وبحضوره يستوي الحديث، ويتبادل الحضور القصص مع تدوير كؤوس الشاي". باختصار، الشاي بالنسبة إلى المواطن الصحراوي هو "إدمان محمود، ورمز للجود، وشيء متوارث عن الجدود"، كما يقال باللهجة العامية.
ويقول محسن صخر من ولاية ورقلة (620 كيلومتراً عن الجزائر العاصمة)، "قصة سكان الجنوب مع الشاي قصة عشق لا تنتهي، هو رفيق المواطن الصحراوي أينما رحل وارتحل، البعض يعتبره محفزاً بدل كونه منبهاً، وأنا أرى أنه معدل للمزاج".
سر التحضير
تحضير الشاي أمر فطري عند سكان الصحراء يتعلمونه منذ الصغر، ويمر بخطوات دقيقة ومراحل مضبوطة، كما لا يحضر في المطبخ كالقهوة، بل على مرأى الضيوف، وتتكفل به واحدة من النساء، وتُستخدم فيه أوانٍ خاصة تسمى "المقامة"، كما تقول إيمان غليب، المتحدرة من ولاية بشار (950 كيلومتراً عن الجزائر العاصمة، ناحية الجنوب الغربي).
يستغرق تحضير الشاي، أو "آتّاي" نصف ساعة على الأقل للحصول على كؤوس من الشاي ثلاثة أرباعها رغوة بيضاء، وربعها شاي محضر بكل حب، حيث تجلس المرأة البشارية في الأرض، وتكون المقامة وقارورة الغاز الصغيرة أمامها.
يوضع الغلاي (إناء حديدي) مملوءً بالماء على النار حتى يهتز من الغليان. وبعد غليانه، يسكب في براد آخر تكون فيه وريقات الشاي ليتم تشليله (غسله)، ثم يفرغ في كأس بنية، ثم يعاد إفراغ الماء الساخن في الإبريق ذاته، ليوضع الشاي على نار هادئة حتى يغلي ويتفاعل مع الماء لتكتسب مذاقاً رائعاً.
وبعد أن يستوي جيداً، نقوم بتحضير البراد (الإبريق)، ونضع فيه أوراق النعناع والسكر، ثم نسكب الشاي، ونحضر كأساً كبيرة لنحرك بها الشاي بدل الملعقة، لنشكل الرغوة البيضاء، والتي هي أساس الشاي.
يقدم الشاي في كؤوس صغيرة بيضاء، وتكون طريقة التقديم غير عادية، حيث تقوم المرأة بإبعاد البراد عن الكأس بمسافة طويلة نوعاً ما، مع إطلاق عبارات الترحيب.
ولا يمكن أن يغادر الضيوف قبل أن يشربوا كأسين على الأقل، فإن امتنعت إحداهن عن شرب الكأس الثانية، يقال لها: "أيوا، ماجيتيش برجل واحدة" (لم تأتِ برجل واحدة)، كناية على أنها يجب أن تشرب الكأس الثانية.
مشروب وطني
الشاي بصورته الغالبة تحول إلى مشروب وطني، بعد أن اختصر الباعة، سواء في المحلات التجارية، أو المتجولون، المسافات بين المناطق، إذ رحل به شباب من الجنوب الجزائري نحو مدن شمالية، كالعاصمة، ووهران، وقسنطينة، وغيرها، وباتوا يتجولون بأباريقهم النحاسية الموضوعة فوق موقد من الجمر ليقصدوا الأسواق ومواقف الحافلات وفضاءات التنزه، وكذا وسائل النقل كالقطار وخط التروماي، ويجدون طلباً متزايداً على سلعتهم المصحوبة بالمكسرات كاللوز والجوز والفستق.
اللافت أيضاً أن هؤلاء الشباب فرضوا حضورهم بفضل جودة خدماتهم وطيبتهم وابتسامتهم النابعة من روح أهل الصحراء المعروفين بكرمهم. هذا وحده لا يخبرنا بالقصة الكاملة، إذ ينتهج الباعة أساليب تسويقية تعكس حبهم وافتخارهم بالمهنة التي يزاولونها، فترى شباب ينادون بأعلى صوتهم "شاي تيممون" نسبة إلى مدينة تيميمون أو "شاي صحراوي"، وغيرها من العبارات التي تجذب الزبائن وتدفعهم لارتشاف كأس من الشاي بسعر يتراوح بين 25 و30 ديناراً، وفق حجم الكوب (0.25 دولار).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي السنوات الأخيرة، يسوق باعة الشاي عدة أنواع، يقولون إن بعضها طبي مخصص للقولون العصبي، وآخر لالتهابات المعدة، أو الشاي الذي يتناول قبل الأكل، وآخر بعده، والشاي الصباحي، والشاي المسائي، وهي الطريقة التي تبقى، وفق الباعة، "سراً من أسرار المهنة".
وأمام انتشار الشاي الصحراوي، لجأ عديد من أصحاب المقاهي في الجزائر العاصمة إلى تخصيص زاوية بالمقهى لبيع هذا المشروب. ومن مظاهر شغف أصحاب المقاهي واهتمامهم بهذا النوع الجديد من النشاط، وجود عدة إعلانات في المقاهي يبحث أصحابها عن محترفين في صناعة الشاي من الجنوب.
إضافة إلى ذلك، احترف قسم كبير من شباب الجنوب مهنة صناعة الشاي في الأعراس والمناسبات، بناءً على ما يطلبه أصحاب الأفراح، سواء بالاكتفاء بالتحضير والتوزيع أو عن طريق إحضار ديكور صحراوي مخصص في خيمة وبعض الأواني الصحراوية، التي تضفي جواً جميلاً على المكان، يمنح الضيوف فرصة عيش أجواء ممتعة والتقاط صور للذكرى.
الشاي في الفن والسياسة
للشاي امتداد، طرق أبواب السياسية والفن. من القصص المتداولة، تلك الكلمة التي ألقاها العاهل المغربي، الحسن الثاني، وهاجم فيها الجزائر، وهدد باجتياح مدينة تندوف الجزائرية التي تقع على خط التماس الحدودي بين البلدين، وزعمه ضمها إلى المغرب، حيث قال: "بإذن الله غداً سأشرب الشاي في تندوف"، قبل أن يأتيه الرد من الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين "إذا شربت الشاي فيها سأعطيك شلاغمي (شواربي) نعناعاً".
واستطاع الشاي الصحراوي حجز مكانته في الغناء الجزائري، من خلال مقاطع كان أبرزها أغنية "يا لزينة ديري لاتّاي من القبسة للواد، يا لزينة ريفي للواد وجيبي نعناع جديد"، التي أدتها فرقة "راينا راي"، عام 1983، والتي تعني "أيتها الحسناء اسكبي كوب الشاي، وهي من أشهر الأغاني التي لا تزال تحظى بشعبية كبيرة.
كما نجد مقطوعة "القهوة ولاتّاي" التي غناها المطرب الشعبي الشهير الحاج مريزق، إذ تروي الحكاية تنازعاً بين القهوة والشاي، داخل قاعة المحكمة، حيث دخل هذان المشروبان يسألان قاضياً عادلاً ونزيهاً، للحكم والفصل بينهما، وتبيان من هو الأحسن والأفضل نكهة ومتعة وفائدة، ليعترف القاضي في النهاية بعجزه عن إصدار حُكم، تجنباً لظلم أحد الطرفين، وذلك بعد استعراض حجج كل واحد منهما، وهنا تتساوى القهوة مع الشاي في الأغنية.