منى واصف صاحبة تجربة فنية كبيرة ومتنوعة، جعلت منها الممثلة الأكثر إبداعاً على مستوى العالم العربي، خصوصاً أنها جمعت بين المسرح والسينما والتلفزيون، عطفاً على عطائها المستمر منذ الستينيات، حتى اليوم، من غير أن يغيب ألقها أبداً.
كان المسرح الداعم الأول لها في مسيرتها الفنية، لأنه ثقّفها من خلال تماسّها اليومي مع كتاب ومخرجين كبار، أغنوا تجربتها على المستويين الفكري والتمثيلي.
تجربة 60 عاماً
في مقارنة بين اليوم والأمس حول كيفية تعاطيها مع المهنة، تؤكد واصف أنها اليوم أهم، وتقول: "لأن الغد أهم فأنا أيضاً أهم. أنا أعيش هذا الشعور لأنني استفدت من تجربة فنية عمرها 60 عاماً، ولأن الخوف والرعشة والنشوة لم تغادرني يوماً. ليس بالضرورة أن أكون الأهم فعلاً، ولكنني أشعر داخلياً بأنني كذلك، ولو شعرت بالعكس، لما كنت استمررت في المهنة حتى اليوم. أنا في عمر صعب جداً، ولكن جمال المهنة لا يجعلني أشعر بالسنين، بينما عندما يشعر الممثل بأنه قليل العطاء فإنه ينطفئ في الحياة، وحتى لو لم يمت جسدياً، لكن روحه تذوي. شعوري بأهميتي فيه نوع من حب الذات والأنانية، وهو لا يعني "شوفوني"، ولا يوجد أهم مني، بل هو يعني أنني مهمة بفني وبعطائي".
وتوضح واصف شعورها بأنها مهمة منذ ولادتها. وتضيف: "منذ الطفولة كانت لديَّ أحلام وتطلعات ملوكية، وبأنني فراشة وعصفورة وقائدة سرب سمك. كنت أحلم بأنني أسافر وأنتصر في المعركة، ثم أعود إلى القصر الذي بنيته على جبل قاسيون. وعندما كبرت، ووقفت على المسرح، ولعبت دور الملكات لم أشعر أن الملكة لا تشبهني، وبأن اللغة العربية الفصحى لا تشبهني. وأعتقد أنه كان نوعاً من الشغف أو الحب، ولكنني تعبت كثيراً على نفسي. فأنا لم أدرس في معهد تمثيل، وفي الأساس هو لم يكن موجوداً، ولم أتلقَ أي تخصص آخر، ولكن جيلنا تمكن من إثبات نفسه. وبناءً على طلبنا أصبح هناك نقابة فنانين ومعهد للتمثيل. كان هناك وزارة للثقافة، وكان مسرحنا يتبع للدولة، وكانت مسرحياتنا منتقاة للتثقيف والتوعية والتسلية، وليس لمجرد التسلية فقط".
من عرض الأزياء إلى المسرح
من عرض الأزياء انتقلت إلى المسرح، وتوالت أعمالها المهمة فيه وفي السينما والتلفزيون، لكنها لا تعتبر أن خطواتها الفنية كانت سريعة جداً. وتوضح: "لم أستمر طويلاً كعارضة في المكان الذي كنت أعمل فيه، حيث كنت أبيع وأعرض الملابس للسيدات اللاتي يأتين من الخارج، ثم انتسبت إلى فرقة أميّة كنوع من التدريب. ومن بعدها اشتغلت في المسرح كراقصة شعبية، لأنني ملمة بالفولكلور، ولكنهم اختاروني كممثلة في دور أول في المسرح العسكري. لا أعرف ما هو الشيء الذي كنت أريده، لكنني كنت أعرف أنني أريد أن أكون مهمة ومشهورة. كنت محظوظة بالثقافة التي اكتسبتها من خلال عمل اليومي في المسرح وعلاقتي بالمثقفين والأشخاص الذين اشتغلت معهم في الجامعة، وبرفيق الصبان. وتطورت تجربتي مع الوقت، إلى أن تم اختياري للمشاركة في فيلم "الرسالة" عام 1974، بعد أن عملت 14 عاماً في المجال، ابتعدت خلالها عاماً واحداً لأن زوجي كان ضابطاً، ولم يكن مسموحاً لي أن أعمل في التمثيل، ثم عُدتُ مجدداً عندما انتقل للعمل في المجال المدني. كما بقيت عام 1964 سنة أخرى في البيت بسبب إنجابي واهتمامي بابني. خطواتي لم تكن سريعة، حتى إنني قدمت أدواراً سينمائية سخيفة، ولكن المسرح كان المجال المهم في تجربتي، وكنت أقدم نفسي دائماً بأنني ممثلة مسرحية. ومن بعد فيلم "الرسالة" شاركت في مسلسلات خارج سوريا، بسبب إجادتي اللغة العربية الفصحى، ومعظم أعمالي المشهورة كانت بها، وفي فتره لاحقة انتقلت للأعمال الشامية".
أدوار كثيرة
توافق واصف على أن هناك تناقضاً في كلامها عندما تتحدث عن مشاركتها في أفلام سينمائية سخيفة في حين أنها تشعر بأنها مهمة، وتصف نفسها بالملكة. وتعقب: "لم أكن أعرف أنها أعمال سخيفة. وعندما أصبحت ناضجة اخترت أن أكون ممثلة مسرحية. السينما كانت جديدة في سوريا، ولكن كان هناك منتجون استعانوا بممثلين مصريين، وأنا وافقت على المشاركة في أفلامهم من دون دراسة. كنت أرغب بالظهور في السينما والمشاركة في أفلام لممثلين مصريين مشهورين جداً، ولكن الأدوار لم تكن تتناسب مع أهميتي كممثلة مسرحية. وما حدث هو أنني قرأت نقداً لأحد النقاد مدحني بشدة عندما شاهد مسرحية "الزير سالم" لألفرد فرج التي لعبت فيها دور الملكة الجليلة، وبالصدفة عندما عرض لي فيلم "ذكرى ليلة حب" كتب الناقد نفسه "منى واصف لماذا تخلعين تاجك بيديك، ملكة على المسرح كومبارس في السينما؟"، فوجدت نفسي مجبرة على مشاهدة الفيلم. ولأنني كنت أقرأ الانتقادات يومياً خلال عملي في المسرح، كنت أملك القدرة على تحمل النقد الجارح وفي الوقت نفسه على استيعاب ما كتب عني بوعي، ولم أشعر يوماً أن هناك تجنياً عليّ، ووجدت أنه محق في كلامه، ومن يومها انقطعت عن السينما".
"أسعد الوراق"
عندما تسأل واصف عن المخرجين الذين تميزت معهم أكثر من غيرهم، تجيب بأنها تشعر وكأنها تُسأل أجمل سؤال. وتضيف: "لا يمكنني اختصارهم لأنهم كثر. أحببت عدداً كبيراً من المخرجين، وهم أحبوني لأنهم آمنوا بموهبتي، وأنا آمنت بهم، واستفدت منهم كثيراً سينمائياً وتلفزيونياً ومسرحياً. مثلاً في التلفزيون علاء الدين كوكش في "أسعد الوراق" الذي لا يزال الناس يتحدثون حتى اليوم عنه، مع أنه عرض عام 1974، وكان سباعية بالأسود والأبيض. وصلاح أبو هنود في "الخنساء"، و"الحب والشتاء"، وهما عملان فوق الوصف، وأنطوان ريمي الذي دخل أعماقي وصورت معه عملين باللغة العربية الفصحى، وغسان جبري في "النصية"، و"طبول الحرية"، بالإضافة إلى تعاملي مع مخرجين مصريين في أعمال حصدت عنها الجوائز، ورشا شربتجي، وحاتم علي، وآخرهم سامر برقاوي. وعندما يحدث تفاهم بين المخرج والممثل، فإنه يحرضه على تقديم الأفضل لأن المخرج أداة تحريض، لكنني كنت، ولا أزال أقول، إن في داخلي "غابات أمازون" لم يكتشفها أحد مع أنني أبلغ الثمانين في فبراير (شباط) المقبل، ومن هنا تنبع الأهمية. ربما أقرر الاعتزال بعد الثمانين، مع أن ذاكرتي جيدة جداً، وجسدي قوي، وأعمل 16 ساعة يومياً، ولكن لأنني أمثل بشغف أشعر بأن الكنوز الموجودة في داخلي لم يكتشفها أحد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعتبر واصف أن هذا الإحساس هو نتيجة للأهمية التي تشعر بها تجاه نفسها، وأنها تنتظر البهجة من خلال كتاب لم تقرأه، أو كاتب لا تعرفه يبهرها بكتاب جديد، أو عمل لم تقدم مثله، أو بلد لم تزره. وتوضح: "ما يسعدني في الكتاب يسعدني في التمثيل أيضاً، لأنني أكتشف كلاماً داخل الكلمة. كان أحد أحلامي أن أكون أديبة، ولكن عندما قرأت للعظماء قررت أن أبقى ممثلة، ووجدت أن من الأفضل أن أمثل بالطريقة التي يكتبون فيها، وهذا الأمر له علاقة بتجاربي المسرحية. وعلى الرغم من كل أهميتي، أعرف جيداً ماذا بمقدوري أن أفعل أو لا، وأنا أتحدث عن كنوز في داخلي لأنني هكذا أشعر، وهناك كثير من الممثلين يشعرون مثلي. آل باتشينو في مثل سني، أو ربما هو أكبر مني، ولكن لا تزال توجد شعلة في داخله. هو اشتهر سينمائياً، ثم قدم مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"، ولعب دور شيلو، على الرغم من كل نجاحاته السينمائية، لأنه يعرف أنه يوجد شيء ما في داخله لم يخرج حتى الآن".
وعما إذا كان هناك عمل مسرحي كفيل بالإفراج عن هذا الكنز، تجيب: "كلا، لأن المسرح يحتاج إلى قوة جسدية كبيرة وقدرة على التحمل. ربما يتحقق هذا الأمر من خلال فيلم عالمي. لِمَ لا؟ يحق لي أن أحلم، والحلم هو الشيء الوحيد الذي لا يستطيع أحد أن يأخذه منا".