على الرغم من أن الشعب التركي كغيره من الشعوب يقوم بردود فعل على المشكلات السياسية، إلا أننا نشهد أنه قدم أكبر ردود فعل ضد الحكومة في صناديق الاقتراع حيال الأزمات الاقتصادية العميقة. ما يعني أنه إذا ما تعلق الأمر بالاقتصاد، فإن رد فعله كان أشد وأكثر حزماً.
في هذا السياق، أشير إلى أزمات اقتصادية كبرى شهدتها البلاد في الأربعين عاماً الماضية، بما فيها الأزمة الحالية.
وبينما وقعت أزمتان منها قبل حكومة "حزب العدالة والتنمية"، حدثت أزمتان خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، أي في ظل حكومات هذا الحزب.
وقد واجهت تركيا الأزمة الخطيرة الأولى في عام 1994، حينما كانت تانْسُو تِشيلَّرْ تقود حكومة ائتلافية.
وكانت تشيلر (وهي تحمل شهادة دكتوراه في الاقتصاد) تعتقد أنها ستتغلب على الأزمة من خلال التحكم في جميع المؤسسات التي لها رأي في إدارة الاقتصاد.
مع ذلك، لم تنجح خطواتها، بل على العكس أدت إلى مزيد من العجز في الميزانية والحساب الجاري.
لذلك، بدأت الحكومة فتح مناقصات للخصخصة، بهدف خفض أسعار الفائدة للحد من عبء الدَّين العام. ولكن المحكمة الدستورية ألغت عملية الخصخصة.
وفشلت الحكومة في تحقيق أهدافها نتيجة للقرارات الاقتصادية الخاطئة.
وشهدت البلاد انخفاضاً درامياً في قيمة العملة، إذ فَقَدَت الليرة التركية 160 في المئة من قيمتها مقابل الدولار بين عشية وضحاها.
ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن حزب تانسو تيشلر من حيازة الصدارة في الانتخابات، بل إنه بعد مشاركة وجيزة في الحكومات الائتلافية، ذهبت إلى مزبلة تاريخ الأحزاب.
أما الأزمة الثانية، وهي الاقتصادية التي أوصلت "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة، فقد حدثت في عام 2001 أثناء ولاية رئيس الوزراء بولنت أجاويد.
ففي ذلك الحين، حذرت منظمات دولية الحكومة مرات عدة من أن الاقتصاد التركي قد يواجه أزمة مجدداً، ولكن المسؤولين الذين تجاهلوا هذه التحذيرات لم يتمكنوا من التنبؤ بالأزمة الأولى للسيولة التي تضرب الاقتصاد.
فارتفعت أسعار الفائدة بشكل حاد مع سعي القطاع المصرفي لأخذ تدبيرات وقائية مع نهاية العام.
ومما زاد الطين بلة ذلك النقاش الحاد بين الرئيس آنذاك أحمد نجدت سيزر ورئيس الوزراء بولنت أجاويد خلال اجتماع مجلس الأمن القومي (MGK). ما تسبب في تحول ضيق السوق الحالي إلى أزمة اقتصادية عميقة جداً.
وأصبحت الدولة مضطرة إلى أن تدفع 93 في المئة من الضرائب التي جمعتها لسد المديونية العامة فحسب، وانخفضت قيمة الليرة التركية بنسبة 100 في المئة مقابل الدولار.
ونتيجة لذلك، وفي غضون عامين، اختفى الحزبان اللذان كانا يشكلان الائتلاف الحكومي من الساحة السياسية، وهما حزب (DSP) الذي يرأسه بولنت أجاويد، وحزب (ANAP) الذي يرأسه مسعود يلماظ.
ومن ناحية أخرى، لم يتمكن "حزب الحركة القومية" من الوصول إلى معدل الأصوات الذي حصل عليه في الماضي.
وظهر "حزب العدالة والتنمية" كنتاج لهذه الأزمة، إذ إن الشعب لم يعُد يثق في أي حزب من الأحزاب التي كانت موجودة.
وكان الناس يبحثون عن مُنقذ لهم. لذلك نظروا إلى رجب طيب أردوغان على أنه ضالتهم المنشودة.
وعلى الرغم من انتماءاتهم الساسية السابقة، فضل معظمهم التصويت لـ "حزب العدالة والتنمية" لأسباب اقتصادية بحتة، وفق ما أفادت استطلاعات الرأي التي أجريت آنذاك بشأن الأسباب التي أثرت في تصويت الناخبين.
وبالفعل، كان أداء حكومات "حزب العدالة والتنمية" خلال السنوات الخمس الأولى من توليها السلطة جيداً جداً، واكتسبت ثقة الجماهير.
ولكن، في عام 2008، زادت الولايات المتحدة الأميركية من معدلات الفائدة في الرهن العقاري، وكان للمشكلات التي واجهها المقترضون في إعادة قروضهم تأثير الدومينو على الاقتصاد. وفي نهاية العام نفسه، أعلن "بنك ليمان براذرز (Lehman Brother)، أحد أكبر بنوك الاستثمار في العالم، أنه مدين بـ 613 مليار دولار، وأفلس.
وقد اعتُبر هذا الإفلاس الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة.
وكسائر دول العالم، تأثرت تركيا بهذه الأزمة، لكنها تغلبت عليها بأضرار طفيفة بفضل تحرك الحكومة لجذب مستثمرين أجانب جادين. ولم تفقد الليرة التركية كثيراً من قيمتها مقابل الدولار نتيجة الأزمة الاقتصادية الوطنية.
وواصل أردوغان الفوز في الانتخابات، إذ اعتُبر ناجحاً بهذه الطريقة.
أما المشكلة الاقتصادية الأخيرة، وهي الانكماش الذي تواجهه تركيا حالياً، فقد أثرت هذه المرة بشكل ملحوظ في جيوب الناس ومطابخهم في منازلهم.
وقد ضربت هذه الأزمة، التي بدأت في عام 2017، المستثمرين والصناعيين للمرة الأولى. وبحلول عام 2019، أثرت على الشركات الصغيرة والمتوسطة، إذ أدت إلى إغلاقها.
وبدأ ارتفاع الأسعار وزيادة التكاليف وانخفاض قيمة الليرة التركية دولياً تؤثر على 80 في المئة من المجتمع التركي.
وبطبيعة الحال، يرى الناس أن الحكومة مسؤولة عن ذلك.
فعلى سبيل المثال، في استطلاعات الرأي التي أجريت قبل عام، كان 65 في المئة من المشاركين يجيبون بـ"لا" عن سؤال "هل تريد انتخابات مبكرة؟".
وفي العام الحالي، كررت شركة الاستطلاعات نفسها السؤال نفسه، وأعلنت نتائج بحثها الجديد.
ففي هذه الدراسة، التي شملت ناخبي "حزب العدالة والتنمية"، يطلب 70 في المئة من المشاركين إجراء انتخابات مبكرة.
كما أن استطلاعات الرأي التي أجريت قبل عام، كانت تشير إلى أن "حزب العدالة والتنمية" في المركز الأول وتستطيع أن تفوز بالأغلبية التي تخول لها تأسيس الحكومة لوحدها.
ولكن شركات المسح الأكثر موثوقية مثل شركة (KONDA) و(Avrasya) و(Metropol)، بل وحتى شركة (ORC) التي كان يتعامل معها "حزب العدالة والتنمية"، تكاد تتفق الآن مع الشركات الأخرى على أن "حزب العدالة والتنمية" لا يمكنه تولي السلطة بمفرده. وتشير إلى أن معدل التصويت لهذا الحزب سيكون بحوالى 30 في المئة، وأن البيانات الحالية تبين أنه سيتقهقر في سباق الأحزاب إلى المركز الثاني في المستقبل القريب.
وفي استطلاعات الرأي المتعلقة بالقادة السياسيين شخصياً، وبمعزل عن أحزابهم، نلاحظ أن أردوغان يخسر أمام عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وعمدة أنقرة منصور يافاش، وحتى رئيس "حزب الشعب الجمهوري" كمال قيليجدار أوغلو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما أشرت في عنوان مقالي، فإن الأزمات الاقتصادية تؤثر في السياسة بشكل مباشر في تركيا، وعلى وجه الخصوص عندما يشعر بها الناس في واقعهم المعيشي اليومي.
ولمزيد من البيان سأشرح بشكل بسيط كيف يفسر الشعب التركي الأزمة الاقتصادية.
صحيح أن الاقتصاديين حينما يشرحون هذه المواضيع يستخدمون جداول تشتمل على حسابات مئوية. ولكن أفراد الشعب التركي وجدوا طريقة بسيطة لشرح مدى نجاح "حزب العدالة والتنمية" في مجال الاقتصاد، وذلك بمقارنة وضع الليرة التركية مقابل الدولار في ظل حكم هذا الحزب في السنوات الماضية. وإليك بيانها بلغة الشوارع والمقاهي والملاعب وسائر الأوساط الشعبية، حيث يقولون:
إن ما في جيبك من الدولار قد ارتفع.
في غضون 9 سنوات من 1 ليرة إلى 2 ليرة تركية.
في غضون 3 سنوات من 2 إلى 3 ليرات.
في غضون سنتين من 3 إلى 4 ليرات.
في غضون 1.5 سنة من 4 إلى 5 ليرات.
في غضون سنة واحدة من 5 إلى 6 ليرات.
في غضون 5 أشهر من 6 إلى 7 ليرات.
في غضون 3 أشهر من 7 إلى 8 ليرات.
في غضون شهرين من 8 إلى 9 ليرات.
في غضون شهر واحد من 9 إلى 10 ليرات.
ثم ارتفع، في غضون شهرين من 10 إلى 11 ليرة.
ويمكن القول إنه لو لم تكن هناك معطيات أخرى سوى هذه المعادلة البسيطة التي يتحدث عنها المواطنون، لم تعد هناك فرصة للفوز في الانتخابات في مواجهة هذه الصورة حتى لو جاء عشرة من أمثال أردوغان.
وهذا غيض من فيض.
فإذا نظرنا إلى النواحي الأخرى، من الاقتصاد إلى القضاء، ومن التعليم إلى السياسة الخارجية، ومن الضمان الاجتماعي إلى القضية الكردية، ومن التعفن في الإعلام إلى المحسوبيات الحزبية وسيطرة هيكل "المافيا" وعقلية "داعش" على الحياة اليومية، فسنلاحظ أن أردوغان وحزبه أمام تحد حقيقي هذه المرة.
أستطيع القول إن أردوغان يلعب الشوط الأخير في حياته السياسية، في بلد وصل كل شيء فيه إلى طريق مسدود.