زادت الحرب في إقليم تيغراي منذ نشوبها قبل عام التحديات التي يواجهها النظام الإثيوبي، من اتجاهات عدة. وهذا ما قد يمنع آبي أحمد من التصرف بحرية كما كان في السابق، ومن دون أخذ التأثيرات الداخلية والإقليمية في الاعتبار، تبعاً لما تمارسه الولايات المتحدة الأميركية من خلال كينيا والاتحاد الأفريقي بالضغط عليه. فمساحة استغلال الأوضاع الأمنية لم تعد مؤاتية كما كانت، لذا وُصفت الأحداث المرتقبة للتصعيد الذي ستتسم به محاولات دخول "جبهة تحرير شعب تيغراي" و"جبهة تحرير أورومو" إلى العاصمة أديس أبابا التي تقف على بعد 200 كلم فقط منها بـ"معركة الصدام الأخير". ومع انهيار أنظمة التحكم للجيش الفيدرالي، فإن أحمد أفرد مساحة واسعة لقومية أمهرة للدفاع عن المدينة، فسلحت الشباب والمزارعين ودخلت في صدام مع قوميتي تيغراي وأورومو.
ومنذ البداية، فُسرت الأوضاع في إثيوبيا على أنها جُرت عنوةً إلى ما يشبه "فخ ثيوسيديدس" بسبب صعود قوة الحكومة الفيدرالية لتنافس قوة "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي كانت مهيمنة على الحكم طوال عقود، ثم استقواء كل طرف بأطراف أخرى. ما أدى إلى "حتمية الحرب عندما تحل قوة جديدة محل قوة موجودة"، بحسب المؤرخ الإغريقي "ثيوسيديدس" الذي صاغ النظرية إبان حقبة الحرب البيلوبونيزية في القرن الخامس قبل الميلاد.
رفاق الأمس
لم تحد الإشادة الدولية التي اكتسبها أحمد بعد إعلانه في 09 يوليو (تموز) 2018، مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي انتهاء الصراع الذي استمر لعشرين عاماً، ثم حصوله على جائزة نوبل للسلام في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، من اشتعال المناخ السياسي القمعي في إثيوبيا. قام أحمد بإصلاحات سياسية بعد أن أصبح رئيساً للوزراء في مارس (آذار) 2018، قادته إلى منصب ثورة شعبية قامت بها قوميات على رأسها أورومو التي ينتمي إليها، ونتجت عنها استقالة رئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين الذي ينتمي إلى قومية تيغراي التي ظلت مسيطرة على السلطة منذ تولي زعيمها رئيس الوزراء السابق ملس زيناوي في مايو (أيار) 1991. ولم يمنع ذلك من إدخال آبي أحمد زعماء المعارضة من تيغراي وأورومو السجون. ومن هؤلاء الذين يمكن أن يلعبوا دوراً مهماً في هذه المرحلة بعد تحالف تيغراي وأورومو، القادة في "حزب المؤتمر الفيدرالي لأورومو" جوهر محمد وبيكيلي جيربا، اللذان اعتُقلا في 30 يونيو (حزيران) 2020 على إثر العنف الذي اندلع بعد مقتل المغني الشعبي هاشالو هونديسا. وجددت تلك الحادثة شعور قومية أورومو التي تمثل حوالى 40 في المئة من مجموع سكان إثيوبيا، بالتهميش السياسي والاقتصادي، على الرغم من أنها أكبر قوميات البلاد، ولكنها لا تمتلك قوة قومية تيغراي التي لا تتجاوز 6 في المئة، وتأسست عبر مكوثها في الحكم وتأسيس قاعدة قيادات عسكرية وسياسية.
ومن الشخصيات التي ستشكل ضغطاً على آبي أحمد في هذه المرحلة وزير الدفاع الإثيوبي السابق ليما ميجيرسا الذي وُضع قيد الإقامة الجبرية بعد أيام من تجميد عضويته في اللجنة التنفيذية لفرع "حزب الازدهار" الحاكم في منطقة أورومو، وكان عُيّن فيه منذ 18 أبريل (نيسان) 2019، وشغل منصب رئيس البرلمان لإقليم أوروميا بعد احتجاجات أورومو فى أكتوبر 2016. وتنبع أهمية هذه الشخصيات من كونها لعبت دوراً مهماً في الاحتجاجات المناهضة لحكومة ديسالين التي أوصلت أحمد لرئاسة الوزراء، إلا أنهم وصفوه بأنه "مدافع ضعيف عن مصالح أورومو ويتصرف كديكتاتور".
تمكين أمهرة
مهدت سنوات حكم أحمد وتقريبه، عند توليه رئاسة الوزراء، جماعات سياسية معارضة ومحاولة إقناعها بالنضال السلمي، مع المحافظة على استبعاد "جبهة تحرير تيغراي"، إلى أن يكون النظام الفيدرالي الإثني هو محرك السياسة والصراع الحالي. وذلك ما أسهم تدريجاً في انسحاب الدعم السياسي الذي كان يتمتع به من قومية أورومو التي ينحدر منها والده، وتخليه عن قاعدته الإثنية لتحل محلها حاضنته وحليفته قومية أمهرة التي تنحدر منها والدته، وهي الإثنية التي تناصب قومية تيغراي منافسة تاريخية على الحكم. وتنبع أهميتها من كونها من أهم ولايات إثيوبيا التسع ذات الثقل السكاني، إذ تشكل أمهرة 25 في المئة من مجموع سكان إثيوبيا، ولغتها هي اللغة الرسمية للجمهورية الإثيوبية. إضافة إلى شغلها حيزاً مهماً في الذاكرة السياسية للشعب الإثيوبي، إذ ينتمي إليها الإمبراطور هيلا سيلاسي والزعيم الشيوعي منغستو هيلاماريام وغيرهما من الرموز. وإضافة إلى الدعم الذي توفره أمهرة لأحمد والاعتماد عليها للبقاء في السلطة، فإن رؤيته (نظرياً) بإضفاء طابع مركزي على السلطة السياسية في ظل نظام فيدرالي، تتوافق مع طموحات قومية أمهرة بوجه ما، وتحقق طموحاتها التوسعية. وبعد أن ظلت حكومة أمهرة الإقليمية تطالب بثلاث مقاطعات تمثل الأراضي الخصبة من إقليم تيغراي وهي ويلكايت تيغيدي وتسيغيدي وسيتيت حُميرة، مكنها أحمد من الدخول إليها وحدثت مجزرة في المنطقة في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وصفها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين بالتطهير العرقي، وانتهجت القضاء على أسماء تيغراي وتحويل أصول ملكية الأراضي منها إلى أمهرة، ويُتوقع أن يستمر دعم أمهرة لأحمد طالما يحقق مطالبها.
المقترح الكيني
يبدو أحمد أمام تحدي قبوله بالوساطة الأفريقية بعد تمسكه بالرفض القاطع للوساطات الدولية، ولكن تظهر الوساطة الأميركية من خلال الرئيس الكيني أوهورو كينياتا الذي يبدو متفائلاً بعد زيارته أديس أبابا ومقابلته أحمد على عكس المبعوث الخاص للاتحاد الأفريقي إلى القرن الأفريقي، إولوسيغون أوباسانجو، الذي حذر من أن "محادثات مماثلة لا يمكن أن تثمر من دون وقف فوري لإطلاق النار". وهو رأي وزير الخارجية الأميركي الذي استهل جولته الأفريقية بنيروبي، قبل نيجيريا والسنغال، وقال من هناك إنه "لا حل عسكرياً للصراع الإثيوبي، وإن على الجميع الاعتراف بذلك". وعلى الرغم من أن جدول أعمال بلينكين احتشد بثلاث قضايا مهمة تتمحور حول المناخ والأمن في إثيوبيا والسودان ومنطقة الساحل الأفريقي، إلا أن القضية الإثيوبية طغت على الأجندات الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنظر إلى شروط الطرفين، من جهة الحكومة الفيدرالية التي اشترطت وقف الهجمات وانسحاب الجبهة من منطقتي أمهرة وعفر المجاورتين، والاعتراف بشرعية الحكومة لإجراء المحادثات المحتملة مع جبهة تيغراي، ومن جهة جبهة تيغراي التي تطالب بالسماح بدخول المساعدات إلى الإقليم؛ فإن المقترح الكيني - الأميركي لوقف إطلاق النار يظهر أن الموقف العسكري سيكون لمصلحة خصوم أحمد (جبهة تحرير تيغراي وجبهة تحرير أورومو)، وذلك ما جعل موقفه يلين بعض الشيء في شأن المبادرة للسماح بدخول المساعدات الإنسانية. وكان أحمد، في يوليو الماضي، قد أعلن من قبل أن حكومته ستسهل وصول المنظمات الإنسانية والسماح لطائرات المساعدات الإنسانية بالوصول إلى إقليم تيغراي، وذلك بعد مباحثات أجراها مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ولكن توقفت مرة أخرى منذ 18 أكتوبر الماضي، بعد تفاقم الأوضاع في الإقليم.
في الواجهة
من ضمن الأسباب الجوهرية، إضافة إلى وضع قوات الحكومة الإثيوبية في اعتبارها ضرورة الالتزام باستراتيجية ثباتها على الأرض، وهي تتعامل مع جبهة تيغراي، هي سعي أحمد إلى خدمة الوضع المتفجر بتقديم ميليشيات أمهرة إلى الواجهة، مستفيداً من الشعور الذي يلازمها من تأثير فقدان السلطة والمنافسة مع تيغراي. وعلى الجانب الآخر، ربما تفكر قوات جبهة تيغراي في ألا تكون في الواجهة حالياً وبعد سقوط أديس أبابا، إذ يناسبها في هذه المرحلة تغيير خطتها بتأجيل نيتها دخول أديس أبابا بسبب ضغط الأطراف الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبدلاً من ذلك ستدفع بجبهة تحرير أورومو إلى الواجهة.
وليس خافياً أن الموقف القوي الذي يستند إليه كل طرف في هذا الصراع مستمد من هذه التحالفات، بل وقد تطرأ عليه المواجهة بين الأطراف الرئيسة من طريق أمهرة وأورومو. وهذا الميل سيقوي المسعى في اتجاه تقديم تحالف مصالح، ربما يكون مضاداً لهيمنة أحمد ويقلص سيادته ويعزز تسريع الخطوة الأخيرة نحو النتيجة النهائية، وهي إما حرب طويلة أو تفكك الدولة الإثيوبية.
حسم جزئي
ربما تستغرق المعركة المقبلة وقتاً طويلاً، أو تستمر عنيفة قبل حسمها جزئياً بتدخلات خارجية، ولكن ستظل للعسكرة التي تمارسها هذه الأطراف آثار وخيمة منها بذرة عدم استقرار ربما تحول النزاع إلى حرب إقليمية. ويشير هذا الوضع إلى عدد من المظاهر هي التصفيات العرقية، ونشوب حرب العصابات التي تقودها ميليشيات أمهرة بسبب معاناة الجيش الفيدرالي من تشتيت المجهود الحربي. وقد لجأت الحكومة الإثيوبية إلى استخدام الطيران المدني في نقل المعدات العسكرية، ما قد يؤثر على الخطوط الإثيوبية عالمياً ويهز سمعتها الدولية، وهي التي تمثل رافداً للاقتصاد الإثيوبي. ومن الآثار أيضاً انخفاض الاستثمار الأجنبي في البلاد ومخاطبة سفارات عدة على رأسها السفارة الأميركية والصينية رعاياها لمغادرة إثيوبيا بأسرع ما يمكن لتوقعات بانفراط عقد الأمن مع تطورات الأحداث، وصعوبة أي تدخلات دولية في الوقت الحالي لحماية الرعايا الأجانب.
في الاتجاه الآخر، لو عُقدت هدنة أو مصالحة بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تيغراي، فإنه يُستبعد إعادة بقية القوميات الأخرى إلى قواعدها الأولى، خارج حلبة الصراع في ظل الانقسامات العرقية والاجتماعية الراسخة والتصفيات التي تمارسها القوميات ضد بعضها.