أبعد نقطة عن سكان المغرب الأقصى هي الصين، إلا أنه في منطقةٍ تقع في وسط المغرب كلّ شيء يُذكّر بآسيا.
"قرية فيتنام" المغربية، تقع في منطقة غابات تشتهر بتجارة الخشب، مكانٌ تحيط به أشجار الـ "أوكالبتوس" من كلّ جهة ومنازل من القرميد تعود بالذاكرة إلى أفلام هوليوود عن الحرب الطاحنة التي خاضها الجيش الأميركي في فيتنام.
مغاربة فيتناميون
في العام 1950، جنّدت فرنسا، التي كانت تحتل المغرب في تلك الفترة، عدداً كبيراً من الجنود المغاربة وزجّت بهم في حروبها في منطقة الهند الصينية، بخاصّة معركة «دان بيان فو» التي جرت في فيتنام عام 1954. وبعد انتهاء تلك الحرب وجد بعضُ أولئك الجنود أنفسهم عالقين في فيتنام، وتزوّجوا فيتناميات وصار لديهم أبناء وعاشوا هناك أكثر من 22 سنة.
العودة إلى الوطن
في ليلة 15 يناير (كانون الثاني) 1972، وصل إلى القاعدة الجوية في مدينة القنيطرة المغربية نحو 70 محارباً مغربياً، رُفقة زوجاتهم الفيتناميات وأبنائهم، بعد أن قرّر ملك المغرب حينها الحسن الثاني، عودتهم مع أسرهم إلى المغرب وكان عددهم 85 أسرة. واقترح عليهم الملك الراحل إما توفير وظائف لهم في مُدنهم الأصلية، أو منحهم أراضي في هذه المنطقة في غرب المغرب.
حكايتهم الطويلة
وفضّل كثيرون منهم الخيار الثاني (العيش في منطقة غرب المغرب)، واستقرّوا في هذه القرية بنواحي "سيدي يحيى الغرب"، وعاشوا حياة أقل من بسيطة. وكان أن كَبُر الأبناء، وأصبح لديهم أحفاد يتحدثون الفيتنامية بطلاقة، أما زوجات أولئك الجنود جميعُهن فالتقطن شيئاً من العربية، فيما غلبت على الأبناء الملامح الآسيوية.
غبار إمبراطورية
في العام 2003 صدر كتاب تحت عنوان "غبار إمبراطورية" للمؤلفة الفرنسية نيلكيا ديلانوي، تروي فيه قصّة جنودٍ مغاربة عملوا ضمن الجيش الفرنسي في فيتنام التي كانت تُسمى آنذاك "الهند الصينية"، وهؤلاء المغاربة هم: محمد الجلالي وبن طاهر وميلود وزوجاتهم الفيتناميات "تي آن" و "ونه" و "ماي" وأولادهم الذين كانوا يحملون أسماءً فيتنامية وعربية.
وفي مقدمة الكتاب، تقول المؤلفة نيلكيا التي عاشت في المغرب خلال حقبة الاستعمار، "ربما أردت من خلال مغامرة هؤلاء الرجال إعادة تركيب تاريخ ظلت فرنسا الاستعمارية تُهيمن عليه لفترةٍ طويلة حَارمةً المؤرخين من إضاءةِ جوانبه المعتمة والغامضة، ولعل هؤلاء الجنود المغاربة الذين عاشوا ممزقين بين وطنهم وفيتنام التي أُرسِلوا إليها لقتال الوطنيين فيها والراغبين في حصول بلادهم على استقلالها، ساعدوني في الوصول إلى هدفي وتقديم صورة أخرى عن الحقبة الاستعمارية".
ولقي بعض هؤلاء الجنود المغاربة حتفهم في ساحات المعارك وطواهم النسيان، أما البعض الآخر فعاشوا وماتوا في فيتنام، وغامروا بانتمائهم ومستقبلهم من أجل قضية "لاندوشين" (الهند الصينية).
حرب "لاندوشين"
هي حرب الهند الصينية (لاندوشين) التي دارت رحاها بين القوات الفرنسية ومجموعات عسكرية موالية لها من جهة، وقوات «فيت مين» بقيادة هو تشي منه (اتحاد استقلال فيتنام) من جهة أخرى، بين عامي 1946 و1954. وجرت معظم الأحداث الرئيسية في الثلث الشمالي لفيتنام (المنطقة التي سماها الفرنسيون باسم "تونكين") على الرغم من أن النزاع شمل كامل البلاد وامتدّ أيضاً إلى البلدان الهندية- الصينية المجاورة مثل لاوس وكمبوديا.
ووفق معطيات تاريخية، جنّدت فرنسا 123 ألف جندي من أصلٍ مغاربي في الحرب التي شنتها ضد الوطنيين الفيتناميين بقيادة مؤسس الحزب الشيوعي الفيتنامي "هو شي منه" الذي أمر أنصاره منذ البداية بإقناع الجنود المغاربيين بعدم خوض الحرب ضدهم، وذلك كون فرنسا تحتل بلدان شمال أفريقيا وتعامل مواطنيهم بقسوة وعنف وشراسة. وبفضل هذه الحملة تمكن الوطنيون الفيتناميون من كسب تأييد جنود مغاربة كثر فرّوا من الجيش الفرنسي ليعيشوا متخفين بين السكان الأصليين، وشاركوا في حرب عصابات انتصرت فيها فيتنام في أكثر من موقعة. وكانت معركة "ديين بيين فو" في ربيع عام 1954 اعتُبرت نهاية وهزيمة فرنسا، إذ غادر الجنود الأفارقة والقوات الفرنسية فيتنام في سبتمبر (أيلول) 1956، وقُدّر عددهم بـ5792 فرداً، أمّا الجنود الذين تم استقدامهم من شمال أفريقيا، فوصل عددهم إلى 20691 من بينهم قتلى ومفقودون.
وبعد نهاية الحرب في منطقة "الهند– الصينية" في عام 1954 وبتعليمات من الزعيم الوطني الفيتنامي "هو شي منه" تجمع هؤلاء المغاربة في إطار تعاونية فلاحية مع جزائريين وتونسيين وسنغاليين، وكذلك أوروبيين. وكان الفيتناميون يطلقون على المغاربة تسمية "الأوروبيين السود". ولدى عودة هؤلاء إلى المغرب عام 1972، أطلق عليهم مواطنوهم اسم: "شناوا" (أي صينيين).
"باب المغاربة" في فيتنام
وترك الجنود المغاربة معلماً من المعالمِ التاريخية التي تزخر بها فيتنام، كان يسمى بدايةً "باب أوروبا- أفريقيا- آسيا" قبل أن يتحوّل بعد ذلك اسمه إلى "باب المغاربة"، الواقع في قرية "بافي ها طاي" شمال العاصمة الفيتنامية هانوي، وعلى الرغم من وجود هذا الباب في عمق آسيا إلا أن لا علاقة له البتة بالمعمار الآسيوي، ويشبه كثيراً التراث المعماري والحضاري العربي والإسلامي.
وقُدّر للمغاربة الاستقرار في هذه المنطقة، وتأسيس عائلات لهم هناك ولكي يتركوا بصماتهم في هذه المنطقة كانت فكرة بناء هذا المعلم العجيب الذي قاوم كل أشكال ومحاولات الهدم، بخاصة بعد انتهاء الحرب.