بعد مضي سبعة أشهر على إطلاقها، نفذت المركبة الجوالة الروبوتية "بيرسيفيرانس" Perseverance الأميركية هبوطاً ناجحاً على المريخ في 18 فبراير (شباط). شكّل وصول تلك المركبة إلى وجهتها جزءاً من بعثة "مارس 2020" Mars2020 ، وقد حظي بتغطية إعلامية مباشرة تابعها ملايين الناس عبر العالم، في مشهد يعكس الاهتمام العالمي المتجدد باستكشاف الفضاء. وسرعان ما لحقت بها البعثة الفضائية الصينية "تيانوين 1" التي تتكون من مركبة مدارية، ومركبة هبوط، ومركبة جوالة تسمى "زورونغ" Zhourong.
تشكل "بيرسيفيرانس" و"زورونغ" المركبتين الجوالتين الخامسة والسادسة اللتين أُرسلتا إلى ذلك الكوكب السيّار في العقد الماضي. كانت الأولى "كيوريوسيتي" Curiosity الأميركية التي هبطت على سطح المريخ في 2012، تلتها ثلاث بعثات من برنامج "تشانغ إي"Chang’E الصيني.
في 2019، كانت مركبة الهبوط "تشانغ إي-4" Chang’E-4 وسيارتها الجوالة "يوتو-2" Yutu-2 أول جسمين من صنع البشر يهبطان على الجانب البعيد من القمر الذي تتعذر رؤيته من الأرض. شكل هذا الحدث علامة فارقة في استكشاف الفضاء، لا تقل أهمية عن بعثة "أبولو 8" (المأهولة) في 1968، التي مثّلت المرة الأولى التي شاهد فيها بشر الجانب البعيد من القمر.
بغية تحليل البيانات التي جمعتها المركبة الجوالة "يوتو- 2" مستخدمة "رادار استكشاف باطن الأرض" (اختصاراً "جي بي آر" GPR)، طوّرنا أداة ترصد كمية غير مسبوقة من التفاصيل عن الطبقات الموجودة تحت سطح القمر. كذلك استطاعت تلك المركبة تقديم معلومات متعمقة حول الكيفية التي تطورت بها تلك الطبقات.
تكمن الأهمية الكبيرة التي يكتسيها الجانب البعيد المظلم من القمر في تكويناته الجيولوجية المثيرة للاهتمام، بيد أن هذا الجانب المخفي يمنع أيضاً كل الضوضاء الكهرومغناطيسية الناتجة من النشاط البشري، ما يجعله مكاناً مثالياً لإنشاء تلسكوبات تستخدم موجات الراديو في استكشاف الفضاء.
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، تستخدم الرادارات المدارية في علوم الكواكب السيّارة، لكن المركبات الكواكبية الجوالة الصينية والأميركية كانت الأولى التي تلجأ إلى رادار من نوع "جي بي آر" يوضع على سطح جرم فضائي [كي يسبر أعماق الموضع الذي يستكشفه]. وقد تقرر الآن أن يصبح جزءاً من المكوّنات العلمية للبعثات الكواكبية المقبلة، إذ سيصار إلى الاستفادة منه في رسم خرائط موضعية عن بواطن التركيبات الجيولوجية في المواقع التي تهبط عليها مركبات الفضاء، وإلقاء الضوء على الخفايا الكامنة تحت السطح.
وكذلك في مقدور رادار "جي بي آر" الموضعية استخراج معلومات مهمة حول نوعية التربة وطبقاتها تحت السطحية. من ثم، تسمح تلك المعلومات بإلقاء نظرة ثاقبة على التطور الجيولوجي الذي شهدته منطقة معينة في جرم فضائي، بل تفيد أيضاً في وضع تقييم عن مستوى الاستقرار البنيوي [في الطبقات الجيولوجية عند الموضع الذي يستكشفه ذلك الرادار] بهدف الاستفادة منها في إنشاء قواعد ومحطات تتولى البحوث العلمية فيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستكمالاً، تعكف المركبتان الجوالتان "بيرسيفيرانس" و"تيانوين 1" على إنجاز مهماتهما حالياً، ومن المتوقع أن تنشر الصور الأولى التي جمعها رادار "جي بي آر" الموضعي من المريخ عام 2022. في المقابل، جاءت البيانات الأولى المستقاة من رادارات "جي بي آر" الموضعية التي استعملتها البعثات القمرية الثلاث "تشانغ إي-3" و"تشانغ إي-4" و تشانغ إي-5" في فحص بنية الطبقات الجيولوجية للجانب البعيد من القمر وتقديم معلومات قيّمة حول التطور الجيولوجي الذي مرت به تلك المنطقة.
على الرغم من مزايا تقنية "جي بي آر" الموضعية يبقى أحد عيوبها الرئيسة متمثلاً في عدم قدرتها على رصد الطبقات الباطنية التي تفصل بينها حدود ملساء. وفي النتيجة، يؤدي عدم اكتشاف الاختلافات المتدرجة من طبقة إلى أخرى، إلى إعطاء انطباع خاطئ بأن السطح السفلي يتكون من كتلة متجانسة، في حين أنه ربما يكون في الحقيقة هيكلاً أكثر تعقيداً، ويمثل تالياً تاريخاً جيولوجياً مختلفاً تماماً.
في ذلك الصدد، طوّر فريقنا طريقة جديدة تقدر على رصد تلك الطبقات باستخدام بصمات الرادار للصخور والجلاميد المخفية. استعملت الأداة المطورة حديثاً لمعالجة بيانات رادار "جي بي آر" الموضعية التي جمعتها المركبة الجوالة "يوتو- 2" التابعة لـ"تشانغ إي-4" التي هبطت في الحفرة القمرية "فون كارمان"Von Karman ، وتشكل الأخيرة جزءاً من حوض "أيتكن"Aitken في القطب الجنوبي للقمر.
يُعد حوض أيتكين أكبر وأقدم فوهة بركانية معروفة، ويُعتقد أنها تشكلت نتيجة اصطدام نيزكي اخترق قشرة القمر وانتشل مواد من الطبقة العلوية فيها (تكمن الطبقة الداخلية تحتها مباشرة). وقد أماطت أداة الكشف الخاصة بنا اللثام عن بنية جيولوجية مكوّنة من طبقات عدّة لم تكن مرئية سابقاً تحتضنها الأمتار العشرة الأولى من سطح القمر التي كان من المتصور سابقاً أنها عبارة عن كتلة واحدة متجانسة.
باستعمال أداتنا الجديدة، بات في وسعنا وضع تقديرات أكثر دقة في ما يتصل بعمق السطح العلوي للتربة القمرية، علماً أنها وسيلة مهمة في تحديد مدى استقرار وقوة أساس التربة، من أجل إنشاء قواعد ومحطات بحوث قمرية.
كذلك تؤشر البنية المكتشفة حديثاً التي تبدو معقدة ومتعددة الطبقات، إلى أن الفوهات الصغيرة أكثر أهمية مما نظن وربما أسهمت أكثر بأشواط مما يعتقد في تكوين المواد التي ترسبت من ضربات النيازك على سطح القمر، وفي التطور العام للفوهات القمرية.
واستطراداً، يعني ذلك أننا بفضل الأداة الجديدة، سنتوصل إلى فهم أكثر اتساقاً للتاريخ الجيولوجي المعقد لقمرنا، وسيكون في مقدورنا أن نضع توقعات تتسم بدقة أكبر بشأن الخفايا الكامنة في باطن الجرم المنير التابع للأرض.
إيراكليس جياناكيس محاضر في علوم الأرض في "جامعة أبردين" University of Aberdeen. نشر هذا المقال للمرة الأولى على موقع "ذا كونفرزيشن" The Conversation.