تكرس رواية "نجع بريطانيا العظمي" لحسام العادلي (الدار المصرية اللبنانية) الصورة النمطية لصعيد مصر كما رسمتها المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية. تدور أحداث الرواية في قرية صغيرة (نجع بالتعبير المحلي) في جنوب مصر، مسلطة الضوء على جبروت السلطة هناك على الأهالي، وهي تيمة تجسدت على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في أعمال يصعب حصرها.
تحكي الرواية عن عائلة "السعداوية" التي يحمل النجع اسمها، ورحلة صعودها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستئثارها بمنصب العمدة، حتى سقوطها بعد ثورة يوليو (تموز) 1952. تبدأ الرواية من حيث انتهت تلك العائلة، فنجد الوريث المنتظر لمنصب العمدة ويدعى "زين"؛ يُمني نفسه بأن يعيد سيرة جده الذي كان يحكم بالحديد والنار بعد أن اهتزت سلطة العائلة لضعف شخصية أبيه، ما أفقد "العمودية" هيبتها. إلا أن تولي تنظيم "الضباط الأحرار" حكم مصر، يقلب أحلام "زين" رأساً على عقب، فقد تمَّ إقصاء أبيه من منصبه وبدأ التعامل مع عائلته على أنها "من أذناب النظام البائد". كما يتم تغيير اسم النجع من "السعداوية" إلى "أبو الجود"؛ اسم أكبر العائلات المعادية للسعداوية.
من الحاضر إلى الماضي
تتنقل الرواية في زمنها من هذا الحاضر ورحلة "زين" إلى القاهرة لمقابلة عمه التاجر في سوق "روض الفرج" الشهير، إلى الماضي وكيف حازت عائلته العمودية، عبر حكاية تتشابه مع الكثير من الحكايات الشفهية التي يتناقلها الناس في الجنوب. بدأت أسرة السعداوية رحلتها بزواج كبيرهم من آل عمدة القرية القديم. فبعد أن كانت أسرة متواضعة، فإنها ترتقي بتلك المصاهرة، التي أعقبها تعيين أحد أفرادها ويدعى "السيد" شيخًا للخفر (شرطة النجع).
جاءت النقلة الكبرى حين نجح "السيد" في القبض على قاطع طريق شهير، يدعى "رزق"، لطالما عجزت السلطة عن الإيقاع به، بعدما ذاع صيت أفعاله المرعبة في العاصمة حيث السلطة المركزية. وتصادف أن مرَّ الخديوي عباس حلمي الثاني وقتها بهذه القرية، فطلب رؤية ذلك الرجل الذي نجح في القبض على "رزق". فلما حضر أمامه ناداه بـ"العمدة". فأصبح بهذه الكلمة هو العمدة الحقيقي للقرية، ولما سمع العمدة القديم بقرار عزله مات من فوره.
وبعد أن استولى "السيد" بكلمة غير مقصودة من الخديوي على العمودية، عمل كما يعمل أهل السلطة عادة. استهل عهده بسحق أخوال أبيه؛ آل العمدة القديم باعتبارهم العقبة في طريق انفراده بالسيطرة على النجع. طردهم من النجع؛ واحداً تلو الآخر. استولى على أراضيهم، ومنع تسمية المواليد على أسمائهم. صادَق المحتلين الإنجليز، ووثَّق علاقته بمندوبهم "هاريس" أثناء الحرب العالمية الأولى، وبنى لهم معسكراً كبيراً في النجع، وجنَّد لهم الأهالي ليشاركوا الجنود البريطانيين في الحرب.
حبكة درامية
تتمتع الرواية بحبكة درامية تجعلها تصلح لأن تكون مسلسلاً تلفزيونياً؛ على غرار ما يحبه المشاهدون من مسلسلات تدور أحداثها في صعيد مصر، فهي تتمتع بتسلسل حكايتها. فعبْر تقنية الاسترجاع يرصد المؤلف التحولات التي مرت بها القرية من عصر إلى آخر مغاير، من خلال أحداث ذات طابع بوليسي مشوق. فـ"السيد" -لاحِظ دلالة الاسم- لا يتورع عن القتل لفرض نفوذه وتأكيد سيطرته، فضلاً عن تنكيله بالبسطاء لأتفه الأسباب، كأن يمر أحدهم على مجلسه دون أن ينزل عن ظهر حماره. يقتل "السيد" دبلوماسياً فرنسياً؛ لأنه طمع في عشيقته الإنجليزية. ويحرض "الغازية" (أي الراقصة في الموالد) واسمها "حِكْمَت" على قتل "ماري"؛ سليلة عائلة "أودنيزي" المقرَّبة من البلاط الملكي البريطاني، لوقوفها ضد تنامي نفوذه. ويشارك دبلوماسياً إنجليزياً في تهريب الآثار المصرية. يطلب من ابنه الصبي ويدعى "حسنين" قتل شخص عابر، ليكون أهلاً لخلافته في منصب العمدة. وعندما يكبر "حسنين" لا يتورع عن قتل رجل طاعن في السن ويقطع لسانه أمام الملأ؛ لأنه بدا شامتاً في موت العمدة "السيد". "حسنين" نفسه سيحرم شقيقه الأكبر من ميراثه بعد موت أبيه بتزوير أوراق رسمية.
يحرص حسام العادلي في روايته على تقديم الدوافع النفسية التي تجعل شخصيات الرواية تُقدِم على أي من الأعمال التي تقوم بها، ومن ذلك تفسيره العلاقة العاطفية التي قامت بين "زين" وابنة الخادم "مغاوري"... "وفي ذروة مشاعر الحب بينهما لم يتخل كلاهما عن وضعه أو ينسى أصله. يعاملها دوماً بقصد أو من دون على أنها أقل منه، بينما ارتضت هي صلافته وتعاليه الدائم عليها، بل بجَّلته لمنزلته الرفيعة في نفسها وقلبها، وتلاحمت علاقتهما لأن كليهما يحتاج إلى الآخر" ص 40. فهي تعزي آماله الضائعة حين تناديه بالعمدة، وترى فيه سليل أسرة "السعداوية" الكبيرة وتفخر بأنها استطاعت أن تستأثر بقلبه. ويقدم الدافع النفسي لعلاقة الحب التي نشأت بين "كارمن" الأرستقراطية الإنجليزية، وأحد أعضاء تنظيم "الضباط الأحرار" على الرغم من بشرته الداكنة وأصله الاجتماعي المتواضع، لأنها تربت على يد "حِكْمَت" الغازية السمراء وأحبتها وكانت تتمنى شاباً مصرياً أسمر فوجدت ضالتها في ذلك الضابط، ورفضت آخرين أعلى منه قدراً ومكانة، لأنها "رأتهم متصنعين يحاولون أن يكونوا غربيين".
يقدم العادلي كذلك تحليلاً نفسياً لحالة التعاطف التي شعر بها أهل النجع مع العمدة "السيد" عندما مات، على الرغم من قسوته معهم، مفاده أنهم "شعروا بالضياع واليُتم والفقد الشديد"، إزاء حقيقة أنهم لن يروا جلادهم أو يسمعوا صوته، مرة أخرى، ومن ثم راحوا يتساءلون كيف ستستقيم أوضاعهم من دونه!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحظى رواية "نجع بريطانيا العظمي" بالعديد من صور التحولات، من بينها التحول من عهد لآخر والمقارنة بين عهد الملكية "الظالم"، وعهد ثورة يوليو "المجيد"، الذي قلَب الأوضاع الاجتماعية رأساً على عقب، فأزالت هيبة العُمَد والإقطاعيين ونصرَت الفلاحين، ونشرت التعليم. التحولات أيضاً تمر بها الشخصيات. ومن ذلك ما مرَّت به شخصية "حسنين" الذي كان يطمح لكرسي لبلوغ العمودية مكان أبيه، وكاد يحقق ذلك الأمل، إلا أنه بقتله الشيخ "أبو الجود"، والنشر عن تلك الجريمة في صحف المعارضة، اضطره إلى الهرب من القرية بحماية من حكومة ما قبل الثورة. إلا أنه بعد ثلاث سنوات على وقوع تلك الجريمة، وسماح الشرطة له بالعودة لتولي العمودية، لم يعد، وفضَّل السيطرة على سوق "روض الفرج" باعتباره أكبر تجاره. ومن الشخصيات التي يحدث لها تحول من وضع اجتماعي لآخر "هاريس" ابن الخادمة التي تعمل في قصر عائلة "أودنيزي"، إذ يتزوج من ابنتهم "ماري" بعدما لطَّخت سمعة العائلة بمجونها وعلاقتها الجنسية مع الدبلوماسي الفرنسي.
وتظهر الرواية أن المساس بالدين وحده هو الذي قد يجعل المقهورين يثورون. وتقدم الرواية نموذجين للتدين، أحدهما يتمثل في الشيخ "أبو الجود"، الذي شارك في الثورة العرابية وكان من خطبائها وحظي بقدر كبير من العلم في الأزهر، فراح يحث الناس على الثورة في وجه الظلم الذي يمثله العمدة الذي يساند الإنجليز الذين يحاربون الدولة العثمانية ويأخذ من قوت الأهالي ليمنحه للمعسكر الذي بناه لهم في النجع. تلك الدعوات كانت أكثر ما يخيف الطاغية، إلا أن "السيد" استطاع أن يواجه من خلال "الشيخ الطشطوشي" الذي زار القرية وحدّث أهلها عن أن العمدة رجل صالح يسير على الصراط المستقيم، وأن مساندته الإنجليز لا غبار عليها من الناحية الدينية.
ويعطي حسام العادلي بعض الأحداث بعداً رمزياً، مثل أن كسر الأهالي عصا "السيد" التي كانت معلَّقة على حائط داخلي في دار العمدة بعد وفاته، يدل على انتهاء عصر من الاستبداد وبداية عصر جديد لم يعد فيه للعُمَد أي قيمة. وينهي الرواية بمشهد غرق مقام "الشيخ الطشطوشي" في مياه الفيضان ومحاولة العمدة إنقاذ المقام لكنه يفشل كرمز لعجزه عن حفظ مقام العمودية إزاء فيضان الثورة التي أتت بـ"الضباط الأحرار" إلى الحكم وبشَّرت بزوال الاحتلال.