لو كان الرسام الفرنسي غوستاف دوريه، الذي كان يعد الأشهر في ميدانه أواسط القرن العشرين، يتقن العربية لكان لسان حاله في السنوات الأخيرة من حياته ذلك القول العربي الذي دائماً ما أثبتت الأحداث صحته، لا كرامة لنبي في بلده. ولقد اختبر دوريه هذا الأمر بنفسه حين جلس ذات يوم يقارن بين اهتمام الإنجليز به على قلة مبالاتهم المعروفة بالمبدعين الفرنسيين، وبين ما لمسه في لندن عبر زيارات عديدة قادته إليها، من اهتمام وتبجيل وتعاطف مع فنه ناهيك بإتاحة الجيران عبر بحر المانش الفرص له كي يضم إلى تراثه الفني الذي تجلى في تحقيقه ما يناهز ألوف الرسوم تزين أمهات الكتب الكلاسيكية الفرنسي، مئات من الرسوم صور بها آداباً بلغة شكسبير، منها رسوم لمسرحيات وشخصيات شكسبيرية، وصولاً إلى تلك الرسوم الرائعة التي زينت كتاباً مشتركاً وضعه مع الصحافي الإنجليزي ويليام بلانشار جيرولد، وصدر بعنوان "حج إلى لندن" في طبعة أولى عام 1872.
تضافر خلاق بين الأدب والفن
ولعل أجمل ما في هذا الكتاب، طبعاً إلى نصه الإنجليزي الذي وصف فيه جيرولد صداقته مع غوستاف دوريه وجولاتهما المشتركة في أزقة لندن وأحيائها البائسة والفخمة الأنيقة سواء بسواء، هو عالم تشارلز ديكنز الذي رسم دوريه نحو 180 مشهداً ذا دلالة من مشاهده. والحال أن الحديث عن لندن ديكنز لا يأتي هنا صدفة أو ككناية أدبية، بل أمراً مقصوداً. فمنذ البداية كان القصد من المشروع أن يضم الكتاب مشاهد تكاد تنتمي إلى عوالم مستقاة مباشرة من روايات ديكنز وشخصياته، حتى وإن كان من الصعب تحديد أي رسم يعبر عن تلك الشخصية أو هذه، وأية مجموعة تخص هذه الرواية أو تلك. ففي نهاية الأمر لم يكن الهدف هنا تزيين نصوص معينة، بل تصوير لندن وعوالمها من خلال استيحاء ديكنز. ومن الواضح أن نجاح المشروع أتى هائلاً بحيث أن صورة لندن الإجمالية وحتى في تفاصيلها أتت من القوة بحيث يضحي من المستحيل على من يغوص في الكتاب أن يتخيل العاصمة الإنجليزية، وليس فقط عند أواسط القرن التاسع عشر أو بشكل أكثر تحديداً عند أواسط عصر الملكة فكتوريا، كما يقول جيرولد، على صورة مغايرة.
ليست مدينة قبيحة
في تقديمه للكتاب الذي وضع هو نصوصه، ولكن على عكس ما يحدث عادة، فهو تأمل طويلاً رسوم صديقه الفرنسي، ثم راح يدون تعليقاته المسهبة عليها، ومن ثم جلس وكتب تقديماً للمشروع كله، ينطلق فيه من تلك الأيام والليالي التي جمعته بدوريه للاشتغال على هذا المشروع، "لقد أمضينا ليلة أو ليلتين في وايتشابيل في حماية رجال الشرطة مرتدين كامل ملابسنا، وتوجهنا لاستكشاف الميناء وعنابره، ومن ثم قمنا بزيارة ليلية إلى مهاجع اللاجئين، وتجولنا على طول النهر صعوداً ونزولاً، عبرنا ويستمنستر لنمضي صبحية أو صبحيتين في "دروري لين". شاهدنا الشمس تشرق في سماء "بيلينغس غيت"، وحضرنا مرتين على الأقل الافتتاح اليومي لسوق "كوفنت غاردن"، كما حضرنا سباق الديربي للمراكب ذات صباح أمضيناه في "نيو غيت"، كانت مناسبة شهدنا خلالها كيف تقوم الخناقات العنيفة من حول السباقات ونتائجها. في خضم ذلك تناولنا العشاء مع فرق سباق تنتمي إلى أوكسفورد وكامبردج، كما أمضينا بعد ظهر بأكمله برفقة واحد من التجمعات التي تصخب في "لامبث بالاس"... وفوق ذلك كله تمكنا من دخول تلك المراكز المخصصة لحجز اللصوص. باختصار، رافقت دوريه متجولاً معه عبر أضواء وظلال عالم لندن العظيم... والغريب أن ملاحظته الدائمة التي كان يرددها أمام كل مشهد يراه، كانت أن لندن ليست مدينة قبيحة...".
لندن تقلد ديكنز
بهذه العبارات وصف جيرولد باختصار مقدمات تلك الجولات اللندنية التي أسفرت عن ذلك الكتاب الذي جمع بين فن دوريه وكتابة جيرولد، الذي قبل ارتباطه بالصداقة مع دوريه كان صديقاً لديكنز نفسه كما لثاكري وغيره من أقطاب الأدب في لندن تلك السنوات. والحال أن الكتاب، "حج إلى لندن" عبر بشكل أخاذ عن تلك الجولات، بخاصة أن فضول الرسام الفرنسي مضافاً إلى عمق معرفة الصحافي الإنجليزي بالمدينة، عرفا كيف يجعلان للكتاب نكهة الحقيقة، إضافة إلى نكهة الأدب الواقعي الذي ينطلق من تعاطف مسبق من قبل الرسام على الأقل، مع ما كان يشاهده ويصوره سواء من بشر أو أماكن وجد نفسه على أية حال على تمازج معها هو الذي كان لا يكف عن الانبهار كما سيقول صديقه، في كل مرة يذكّره فيها وجه أو زقاق أو مبنى بما كان خبره عند قراءته المعمقة لنصوص ديكنز كما لنصوص كتاب آخرين، كان بعضهم أقل من هذا الأخير بؤسوية في التعاطي مع حياة المدينة. ومن المؤكد أن غوستاف دوريه عرف كيف يرد هنا الجميل لتلك المدينة التي احتضنته وكرمته، ولا سيما حين التجأ إليها شبه منفي أيام اندلاع كوميونة باريس التي أرعبته وأرعبت غيره من فرنسيين مبدعين لم يجدوا مهرباً سوى لندن.
النقد الفرنسي يتجاهله
لكن حظ دوريه مع لندن كان أفضل من حظ مواطنيه الآخرين معها. بالتالي كان من الطبيعي لرده لجميلها عليه أن يكون على حجم ذلك الواقع. وتعود تلك الحكاية بالتالي إلى ربيع عام 1868، حين زار دوريه لندن ليحضر افتتاح معرض أقيم للوحاته الزيتية في قاعة تسمى "القاعة المصرية" في العاصمة البريطانية، وبعد الافتتاح توجه إلى "نيو بوند ستريت" ليرأس افتتاحاً صاخباً أقيم لـ"غاليري دوريه" وسط زحام معجبين لم يكن يتوقعه، أتى بفضل دعاية ضخمة نشرتها مجلة المتحف الفرنسي – الإنجليزي التي كانت مهتمة بذلك الفنان الفرنسي الذي كان قد بدأ التعاون مع الناشرين اللندنيين منذ عام 1856 تعاونا أتت ذروته من خلال رسوم ملونة حققها لطبعة إنجليزية من الكتاب المقدس، جعلت عشرات المقالات التقريظية تنهال عليه وسط تجاهل تام من النقاد الفرنسيين. ومهما يكن، بعد الجولات الاحتفالية التي شارك فيها دوريه مكرَّماً في زيارته ربيع 1856، سيلتقي بالصحافي جيرولد الذي كان تعرف عليه عام 1855 لمناسبة تغطيتهما معاً، وكل على طريقته، الزيارة الشهيرة التي قامت بها الملكة فيكتوريا إلى بولونيا الفرنسية، وارتبطا بتلك الصداقة التي ما انفكت عراها يوماً، وجرى بالتالي الاتفاق بينهما على أن يزور دوريه لندن فيقوم جيرولد بمرافقته في تلك الجولة اللندنية التي ستتم بعد حين وتكون ثمرتها الرئيسة رسوم ونصوص "حج إلى لندن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيد الرسم الفرنسي
وكما أسلفنا سيكون لهذا الكتاب رد فعل كبير في لندن يضاف بالتأكيد إلى ما كان أهل هذه المدينة وفنانوها وصحافيوها قد أبدوه من تبجيل لدوريه، لا سيما بعد حين يوم صدر ذلك الكتاب المشترك الذي نخصه بالحديث هنا، فتلمسوا من خلاله التعامل المميز الذي خصهم به ذلك الفنان الفرنسي الذي سرعان ما بات سيد الفنانين الفرنسيين في نظرهم. وذلك إلى درجة أنه في عام 1871، وحتى من قبل صدور الكتاب المذكور بالفعل، وكان كثر من الإنجليز قد عرفوا أن دوريه يشتغل عليه، وفي وقت كان فيه عدد لا بأس به من الفنانين الفرنسيين قد توجهوا ليعملوا ويعرضوا في لندن، بعدما اجتذبهم إليها وسهّل وصولهم تاجر اللوحات بول دوران – رويل، الذي كان يملك أعمالاً في العاصمة البريطانية، فوجئ هؤلاء الفنانون ومن بينهم بيسارو ومونيه ورينوار بين آخرين، بأن الإنجليز لا يعرفونهم وبالكاد يعرفون شيئاً عن أعمالهم، لكنهم يعرفون غوستاف دوريه معرفة جيدة ويزورون متحفه ويشترون أعماله. وكان ذلك على أية حال سبباً إضافياً لتفاقم سوء التفاهم الفني بين البلدين، سوء تفاهم ظل غوستاف دوريه (1832 – 1883) في منأى عنه...