يحتفل موقع "غوغل" اليوم بذكرى ولادة الشاعر محمد الفيتوري التي تحل في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) ويذكر القراء العرب به، هو شاعر الزنوجة العربية والأفريقية، بعدما كاد يلفه النسيان في هذه المرحلة المعقدة عربياً، ولعل ما يزيد من تهميشه هو انتماؤه المزدوج إلى بلدين يشهدان الآن ذروة الاضطراب السياسي والعسكري، السودان بلده الأم الغارق في أجواء الانقلاب العسكري، وليبيا الوطن الثاني الذي يعاني حالاً من الحرب الأهلية والانقسام والتشرذم، وكان الرئيس معمر القذافي منحه شخصياً بطاقة انتساب إلى الجمهورية الشعبية، بعيد هجره السودان وترحاله في عواصم عربية. وكان أمرّ ما قاسى شاعر"أغاني أفريقيا" هو احتضاره ووفاته وحيداً وشبه فقير في مدينة الرباط المغربية، في 24 أبريل (نيسان) 2015، عن 79 عاماً هو الذي ولد في 24 نوفمبر 1936.
أزمة انتماء
بادرة لافتة حقاً من موقع "غوغل"، ولو أن النص الذي رافق ذكراه لا يفي قيمة هذا الشاعر وموقعه في الشعر العربي الملتزم والمناضل عروبياً وزنوجياً، على غرار كبار الشعراء الأفارقة. لكن الفيتوري عانى ما يسمى أزمة الانتماء، فهو المولود في مدينة الجنينة على تخوم السودان، ظل يشعر أنه ضائع الهوية يعيش على تخوم الخريطة العربية والأفريقية، وعلى تخوم العروبة والزنوجة، كما على تخوم الكلاسيكية والحداثة، اللتين انتمى إليهما في وقت واحد، كاتباً القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة.
كان الفيتوري يشعر أنه شاعر بلا وطن نهائي، لكن الأوطان كلها كانت وطنه، ولم يولد امتزاج الأعراق في دمه، البدوي والزنجي والنيلي، حالاً من الضياع أو الحيرة في نفسه، بل كان فخوراً بأن يسمى شاعراً سودانياً أو ليبيا شاعراً أفريقيا أو عربياً مهاجراً أو منفياً.
أثر مصر
وكانت مصر بمثابة الأساس في بناء شخصية الفيتوري إنسانياً وشعرياً، هو الذي قضى فيها الردح الأكبر من حياته إلى أن صنعته مثلما صنعت أبناءها. درس في الأزهر وتتلمذ على أساطين الشعر القديم والنهضوي والعالمي، لا سيما الملتزمين منهم، لينطلق من ثم وحيداً في تجربته من دون أن ينتمي إلى تيار أو حركة أو مدرسة شعرية. ومثلما عاش متنقلاً بين الخرطوم والإسكندرية والريف المصري والقاهرة وبنغازي وبيروت ودمشق والدار البيضاء وروما والرباط، تنقل الفيتوري شعرياً، فكتب بحرية متأرجحاً بين قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية بين الغنائية والالتزام، علماً أن الالتزام يحضر في تجربة الفيتوري بمعناه الإنساني، بعيداً من المعنى السياسي والأيديولوجي، وهو يقترب في انحيازه المطلق إلى الجمال والإنسان، من الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور الذي أسس مع إيميه سيزير في الثلاثينيات "حركة الزنوجة" التي رسخت الوعي بالواقع "الزنجي"، رافعة شعار "القيم السوداء". لكن صاحب "أغاني أفريقيا" تخلى عن عقلانية سنغور في رؤيته الزنجية، وارتأى التعبير عنها كما عاشها، شاعراً عفوياً تلقائياً غاضباً متأثراً بجروح خلفها التاريخ فيه، وهو لم يتوان في هذا السياق عن وصف نفسه بـ "المهرج الحزين" و"المغني الهمجي" و"السجين الميت" الذي يثأر لنفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا النفس الثأري بدا جلياً في دواوينه الثلاثة التي صدرت تباعاً في مرحلته الأولى، ومثلت أفريقيا الفضاء الشعري فيها "أغاني أفريقيا" و "عاشق أفريقيا" و "اذكريني أفريقيا"، ومع تميز هذه المجموعات ظل ديوانه الصادر في القاهرة عام 1955 بعنوان "أغاني أفريقيا"، من أكثر الأعمال التي لقيت ترحاباً وحفاوة في العواصم العربية، وفيه دعا الفيتوري إلى رفض الظلم التاريخي والسياسي والعنصري، بصوت أصيل جريء مجروح، كأنه طالع من ذاكرة العذاب. وقد كتب في إحدى قصائده، "قلها لا تجبن ... لا تجبن / قلها في وجه البشرية / أنا زنجي / وأبي زنجي الجد/ وأمي زنجية ...".
لكن محمد الفيتوري انتقل من مرحلة الالتزام الأفريقي الذي لم يتخل عنه بتاتاً، إلى أفق الشعر الوجداني والغنائي، شعر الحب والوجد، وكتب قصائد تفيض حنيناً وجمالاً وطلاوة، منتمياً إلى حركة الحداثة انتماء بدهياً وعفوياً، ولعل ديوانه "ابتسمي حتى تمر الخيل" الصادر العام 1974 هو من أجمل دواوين الحب. ومعروف أن الفيتوري لم يشارك في المعارك النقدية والأيديولوجية والفكرية، بل عاش الشعر عيشاً داخلياً وروحياً وحماسياً، بعدما تمرس في أصوله ومصادره العربية.