هذا كتاب للمهتمين بقضايا التاريخ وشؤون السياسة. كتبه صحافيان روسيان من الرعيل المعاصر ممن انضموا منذ أولى سنوات المهنة، إلى الصحافة المعارضة ومثيلتها الصادرة باللغات الأجنبية في الداخل.
إنهما أندريه سولداتوف وإيرينا بوروغان اللذان سرعان ما تحولا إلى الصحافة الاستقصائية، تحديداً صوب ما يثير قلق النظام والسلطات المحلية، بما كانا يختارانه من مواضيع لتقاريرهما ومقالاتهما، وأخيراً كتبهما التي أصدراها سوية لتثير كثيراً من الاهتمام والجدل في آنٍ.
مقالاتهما وتقاريرهما سرعان ما كانت في صدارة أسباب ذيوع صيتهما وشهرتهما في الداخل والخارج، لما تضمنته من معلومات وتفاصيل، سرعان ما استقطبت اهتمام كثير من كبرى الصحف الأجنبية، ومنها الأميركية، مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست".
المهاجرون الروس في الشتات
وركّزا في كتابتهما عبر تقارير ومقالات عن المهاجرين الروس في الشتات، أو في المهجر على متاعب الداخل وهمومه، وأوردت عنهما صحيفة "غارديان" البريطانة أن "كتاباتهما باتت أقرب إلى الأبحاث والدراسات التي تخصصت في استقصاء حقيقة أسباب المواجهة بين الكرملين والمعارضة غير الممنهجة التي ترفض ممارساته في السيطرة على عالم الإعلام والمعلومات في الداخل الروسي".
أما صحيفة "إيكونيميست" البريطانية، فوصفتهما "بالمؤلفين الجسورين اللذين تخصصا في كتابة المواضيع المثيرة"، بما جعلهما من "أكثر نقاد الجهاز الروسي للتجسس الإلكتروني"، على حد تعبير إدوارد سنودن الموظف السابق في جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية الهارب من الولايات المتحدة، الذي منحته روسيا حق اللجوء السياسي منذ عام 2013.
اختار سولداتوف وبوروغان الشتات والمهاجرين الروس موضوعاً لكتابهما الأخير الذي صدر بالإنجليزية في نيويورك عن دار نشر “PuplicAffairs” تحت عنوان " The Compratriots: The Brutal and Chaotic History of Russia’s Exiles, Emigres and Agents Abroad"(المواطنون: التاريخ الفوضوي والوحشي للمغتربين والعملاء الروس في الخارج)، وترجم إلى الروسية عن دار نشر "البينا بابليشر" تحت عنوان رئيس "رجالنا في صفوف الغرباء"، ذيّلاه بآخر فرعي يقول "الكرملين والمهاجرون السياسيون".
صدر الكتاب في أربعة أجزاء، أوردها المؤلفان في 34 فصلاً، إضافة إلى المقدمة والخاتمة، وكذلك الهوامش والحواشي، إلى جانب المراجع والمصادر، وما ارتبط بها من أسماء وعناوين للتوضيح والاستزادة المعلوماتية.
واستهل المؤلفان كتابهما "المثير"، "البوليسي" في بعض جوانبه، بالإشارة إلى عدد من الوقائع حول ما تعرض له عدد من المهاجرين والمعارضين الروس في الخارج من ملاحقة ومتابعات.
وأشارا في مقدمة الكتاب إلى أحد المهاجرين السياسيين الروس وهو فلاديمير كارامورزا الأصغر، المعروف بعدائه للكرملين، الذي قال إنه تعرض لمحاولة "تسميم" خلال إحدى زياراته إلى العاصمة الروسية عام 2015.
وعولج في أحد مستشفيات واشنطن، حيث زاره أحد عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، ممن جرى تكليفهم بالتحقيق في الحادثة. وأضاف الكاتبان أن كارامورزا تعرض لمحاولة تسميم ثانية لدى زيارة أخرى إلى موسكو في فبراير (شباط) 2017، كانت أعراضها مماثلة أعراض المحاولة الأولى.
وأشار الكاتبان أيضاً إلى ما تعرض له ميخائيل ليسين، وزير الإعلام السابق إبان أعوام الولاية الأولى لفلاديمير بوتين. ومن دون التطرق إلى تفاصيل ما جرى من مناقشات أو مداولات بين ممثلي الأجهزة الأمنية الذين وصلوا إلى واشنطن وللمرة الأولى ضمن "وفد موحد"، أشار الكاتبان إلى أن حادثة تسميم ضابط الاستخبارات الروسية الهارب إلى لندن سيرغي سكريبال، وقع بعد شهر واحد من تاريخ وصول الوفد الأمني الروسي إلى واشنطن، وهو ما أوجزاه في فقرة تقول إن "الروس المهاجرين إلى الخارج عادوا ليكونوا في مرمي نيران الأجهزة الأمنية الروسية بعد ثلاثين سنة من انهيار الاتحاد السوفياتي، وعشرين سنة من وصول فلاديمير بوتين إلى قمة السلطة في روسيا".
وتوقف الكاتبان ليشيرا إلى أنهما كانا في طريقهما إلى باريس، في الوقت الذي كان وفد الأجهزة الأمنية الروسية الثلاثة، في طريقه إلى واشنطن. توقفا في باريس عند "المركز الثقافي الروحي" الروسي على ضفاف السين قرب برج إيفل. وعزا الكاتبان إصرار الجانب الروسي على تمتع موظفي المركز بالحصانة الدبلوماسية وموقع المركز على مقربة من وزارة الخارجية الفرنسية إلى أسباب لا تخفى على أحد.
وأعادا إلى الاذهان بعضاً من تاريخ الأمس القريب، الذي كنا منه على مقربة. ومنه ما يتعلق باهتمام الرئيسين الأسبق بوريس يلتسين والحالي فلاديمير بوتين بأبناء الوطن من الروس الذي اختاروا الإقامة في المهجر، وإن اختلفت الأسباب كما ذكر الكاتبان في مقدمة الكتاب.
بوريس يلتسين
وإذا كان بوريس يلتسين أبدى اهتماماً خاصاً بالمهاجرين الروس ممن فرّ أباؤهم وأجدادهم من روسيا هرباً من "نير" ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 وبدايات تسلط النظام الشيوعي وويلات الحرب الأهلية، فإن فلاديمير بوتين كان أعرب عن اهتمامه بهؤلاء المهاجرين لأسباب أخرى، على حد اعتقاد الكاتبين الروسيين.
وفسّر المؤلفان ذلك بقولهما إن عدد أبناء المهجر (الشتات) من الروس يبلغ في مجمله ما يزيد على 30 مليون مواطن، منهم قرابة عشرة ملايين اختاروا الإقامة في البلدان الأوروبية. وقالا إن الرئيس بوتين استهوته مطلع القرن الحادي والعشرين فكرة استخدام هؤلاء الروس المرتبطين بروسيا على نحو طبيعي، من أجل تدعيم نفوذها في هذه البلدان، في الوقت الذي كان يلتسين يستهدف أمراً مغايراً. ونذكر أننا كنا في زيارة إلى باريس مطلع عام 1992 ضمن الوفد الصحافي المرافق للرئيس الروسي الأسبق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي قصر الإليزيه في القاعة التي خصصها الفرنسيون للمؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين الروسي يلتسين، والفرنسي فرانسوا ميتران، صودف أننا جلسنا متجاورين مع فلاديمير بولشاكوف، المراسل "التاريخي" لـ"برافدا"، لسان حال الحزب الشيوعي السوفياتي في باريس، (معلوم أن المراسل والصحيفة، معروفان بالعداء ليلتسين الذي جاء إلى سدة الحكم رئيساً لروسيا على صهوة العداء للشيوعية).
آنذاك فوجئت ببولشاكوف يتساءل عما إذا كنت قد علمت بما قاله يلتسين بالأمس في لقائه مع ممثلي المهاجرين "البيض" ممن لاذوا بالفرار من روسيا الإمبراطورية بعد ثورة 1917، وما أعقبها من حرب أهلية دموية. ومن دون انتظار للإجابة، تساءل ثانية عما إذا كنت على استعداد للاستماع لما قال. وأيضاً ومن دون انتظار للرأي والقرار، أدار جهاز التسجيل لأستمع إلى ما قاله يلتسين.
وكان "وصلة" من السباب والشتائم للنظام الشيوعي، ومثالب النظرية التي قال إنه كان يمكن السكوت عنها لو "كان الشيوعيون أرادوا تطبيق مثل هذه التجارب في دولة أفريقية صغيرة، وليس في الاتحاد السوفياتي"، مترامي الأطراف متعدد القوميات.
أوضح أن الأمر كان يمكن السكوت عنه، من دون اعتبار لعدد الضحايا، وحساب لما كان يمكن أن تسفر عنه هذه النظرية "غير الإنسانية" من نتائج مهلكة وسلبيات عظام.
ذلك ما كان يريد يلتسين توضيحه في لقائه مع ممثلي المهاجرين البيض الذين فرّوا من نير وملاحقات الجيش الأحمر، ممن أراد استقطابهم إلى جانبه في معركته ضد غورباتشوف والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. واستكمالاً لهذا المشهد والحديث العبثيين، أشير إلى أن ذلك ما أودعته سؤالي للرئيس يلتسين الذي كان يعرف أنني "صحافي مصري" بحكم ارتباطنا معه بعلاقات طيبة، منذ سنين اضطهاده وملاحقته من جانب النظام الحاكم آنذاك.
ولذلك فقد تركزت إجاباته على اعتذار، حرص على أن يلحقه بأنه لم يكُن يقصد على الإطلاق توجيه أي إهانة لأي من الشعوب الأفريقية التي يكنّ لها كل احترام.
وللمزيد من القرائن والأدلة على احترامه وحرصه على العلاقات الطيبة مع الشعوب الأفريقية، قال إنه بادر قبل رحلته إلى باريس باستلام أوراق اعتماد سفير المملكة العربية السعودية في موسكو، وهو ما أثار ضحك الحاضرين من جهل رئيس يعتبر السعودية "دولة أفريقية"، وهذا ما أودعته صحيفة "الشرق الأوسط" في صدر صفحتها الأولى في اليوم التالي لهذا المؤتمر الصحافي، وما أوردته في كتابنا "بوتين من الشيشان إلى الكرملين"، الصادر في القاهرة عام 2003 ضمن نوادر الرئيس يلتسين.
وبالعودة إلى كتاب "المتمردين" الروسيين سولداتوف وبوروغان، نستكمل ما تناولاه في الفصل الأول من كتابهما شديد الأهمية والإثارة معاً. قال الكاتبان الصحافيان إن المهاجر الروسي الذي يُعدّ الثالث في العالم بعد الشتات الهندي والمكسيكي، وقبل الصيني بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، أتاح للكرملين فرصة عظيمة وإمكانات هائلة.
ولمزيد من الإيضاح، قالا إن الملايين من المهاجرين الروس ممن لاذوا بالفرار منذ بدء هجرة اليهود من الإمبراطورية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر، وتدفق المهاجرين ممن لحقوا بهم مع أولى سنوات الثورة الاشتراكية واندلاع الحرب الأهلية، وكذلك ممن لم يعودوا إلى الاتحاد السوفياتي بعد مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية، كانوا "ساحة فريدة متميزة مناسبة" لنشاط الاستخبارات السوفياتية، في إطار خطة بعيدة المدى لتشكيل شبكة واسعة من العملاء في أوساط المهاجرين.
وأكد الكاتبان أن عشرات العملاء من الجواسيس كانوا يجمعون المعلومات لموسكو في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في مدن عدة ومنها نيويورك وباريس وبرلين. ووصفا تاريخ الجاسوسية السوفياتية بأنه "تاريخ دموي"، واتهما كثيرين من عملاء الاستخبارات السوفياتية بأنهم تورطوا في اغتيال أبناء وطنهم في الخارج. وخلص الكاتبان إلى أن هذه الممارسات لم تنتهِ بزوال الاتحاد السوفياتي.
ومن هنا، سرد الكاتبان كثيراً من هذه الممارسات منذ وفاة لينين زعيم ثورة أكتوبر، مشيرين إلى أن الأساليب الصارمة والقاسية تظل قائمة حتى اليوم، في الوقت ذاته الذي يحاول فيه خصوم الاتحاد السوفياتي وعلى رأسهم الولايات المتحدة العثور بين المهاجرين الروس على من يخدم مصالحهم وينفذ مخططاتهم.
حركة الجاسوسية
واستعاد الكاتبان البدايات الأولى لحركة الجاسوسية والتجنيد منذ أولى سنوات الثورة، انطلاقاً من قول مأثور استمعا إليه من أحد أوائل المنشقين السياسيين السوفيات والمهاجرين السياسيين الهاربين إلى الغرب، وهو فلاديمير بوكوفسكي الكاتب السوفياتي الذي هرب إلى بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي.
قال بوكوفسكي في حديثه إلى مؤلفَي الكتاب "لقد تشكلت الإمبراطورية الروسية نتيجة أن الشعب كان يلوذ بالفرار هرباً من السلطة، بينما كانت السلطة تلاحق هذا الشعب".
وعبر كثير من تفاصيل حياة المهاجرين السوفيات في "هاربين" أو "خاربين"، وهي مدينة صينية قريبة من الحدود المتاخمة للاتحاد السوفياتي شمال شرقي الصين، يتوقف الكاتبان في الفصل الثاني عند نشاط الاستخبارات السوفياتية في هذه المنطقة بين أوساط المهاجرين الذين فر معظمهم من روسيا لأسباب تتعلق بما راودهم من مخاوف على حياتهم الشخصية، بسبب سياسات ستالين القمعية. ويمضي الكتاب في استعراض سبل زرع عملاء الاستخبارات السوفياتية بين أوساط المهاجرين، ونجاح كثير من عمليات انتقام البلاشفة من خصومهم السياسيين.
وقالا إن هذه العمليات كانت أخف وطأة وأكثر مرونة مع الرفاق السابقين ممن كانوا يكتفون بالنسبة إليهم، بمجرد قرارات طردهم من الأنساق القيادية لمنظماتهم الحزبية والمحلية، وقلّما كانوا يلجأون معهم إلى التصفية الجسدية.
غير أن تطورات الأحداث في أعقاب الحرب الأهلية، وما راود ستالين من مخاوف من احتمالات عودة خصوم الأمس إلى مقارعته في الداخل، سرعان ما أسفرت عن التحول إلى ضرورة ملاحقة الخصوم أينما كانوا، وعدم التورع عن ارتكاب جرائم التصفية الجسدية.
وتوقف الكاتبان بالأسماء عند كثير من هذه الحالات في مختلف أرجاء العالم من هاربين في الشرق وحتى بلغراد وباريس في الغرب.
واستعرض الكاتبان بكثير من التفاصيل في الفصول التالية اعتباراً من الفصل الرابع من هذا الكتاب عند مطاردة النظام الحاكم في الاتحاد السوفياتي آنذاك، لليف تروتسكي، الخصم رقم "1" لستالين في ثلاثينيات القرن الماضي، وملاحقته أينما حل، منذ انتقاله من تركيا إلى فرنسا، ومنها إلى النرويج. حتى بعدما رحل عن القارة الأوروبية قاصداً المكسيك، وجد من يلاحقه في نيويورك وفي أميركا اللاتينية.
وانتقل الكاتبان اعتباراً من الفصل السابع إلى العلاقات السوفياتية الأميركية، وما راود الولايات المتحدة من مخاوف انتشار الشيوعية وما وصفته واشنطن بـ"بلشفة الأنظمة والدول الأجنبية".
وفي هذا الصدد، استعرض الكاتبان بدايات تجنيد عدد من أعضاء الحزب الشيوعي الأميركي وعملاء الكومنتيرن (منظمة الشيوعية الدولية) للتغلغل داخل المؤسسة الصناعية العسكرية من أجل جمع المعلومات اللازمة حول خطط التسليح الأميركية، ونقلها إلى الاتحاد السوفياتي إبان أعوام الحرب العالمية الثانية، اعتباراً من عام 1943.
كما توقف الكتاب أيضاً عند الخطط المضادة من جانب الأجهزة الأمنية الأميركية لملاحقة ورصد خطوات العملاء السوفياتيين بمن فيهم من بدأ نشاطه تحت سقف السفارة السوفياتية في واشنطن.
لكن ظروف الحرب العالمية الثانية، وحاجة ستالين إلى التعاون مع الولايات المتحدة في مواجهة النازية الهتلرية، سرعان ما فرضت تراجعه عن كثير من مخططات الأمس، وما دفعه إلى اتخاذ قرار حل الكومنتيرن لتفادي عداء الولايات المتحدة وبريطانيا.
ولم يكُن ذلك سوى خطوة نحو التحول صوب أساليب جديدة، ومنها ما تعلق بالتغلغل داخل أجهزة الاستخبارات الأميركية. وعبر تفاصيل عدد من عمليات الاستخبارات العسكرية الأميركية، توقف الكاتبان عند بدايات جمع المعلومات حول النشاط النووي وأسرار صناعة القنبلة النووية التي سرعان ما استطاع جورج كوفال الأميركي الأصل الذي نجحت الاستخبارات الروسية في تجنيده، جمعها ونقلها الى موسكو، وما أعقب ذلك من استدعائه إلى موسكو عام 1948، ليجري تسريحه في وقت لاحق من صفوف الاستخبارات السوفياتية.
وفي هذا الصدد، أشار الكاتبان إلى أن الرئيس فلاديمير بوتين خلال إحدى زياراته إلى مقر الاستخبارات العسكرية، تذكر جورج كوفال الذي وصفه برجل الاستخبارات السوفياتية الوحيد الذي استطاع التغلغل في أوساط العاملين بـ "مخطط مانهاتن"، وأعلن منحه وسام "بطل روسيا" بعد مماته. وخلص الكاتبان أن الاستخبارات السوفياتية استطاعت تنفيذ كثير من مخططاتها داخل الولايات المتحدة سواء قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية أو إبان سنواتها، وإن وقعت أيضاً في سلسلة من الأخطاء الجسيمة العائدة إلى جنون الشك الذي كان ينتاب ستالين من جانب، وعدم تأهيل وسوء كفاءة عدد من رجال الاستخبارات السوفيات من جانب آخر.
ومع ذلك، خلص الكاتبان أيضاً إلى نجاح الكرملين في استخدام المهاجرين السوفيات و"زرعهم" داخل الأوساط الأميركية والمجالات والمصالح الحيوية الأميركية، وإن أشارا إلى أن الأميركيين تداركوا ذلك بعد الحرب، وبدأوا خطة الإعداد للرد على موسكو.
وذلك ما أودعه الصحافيان "الفصل الثامن" من هذا الكتاب، الذي أورداه تحت عنوان "الاستخبارات الأميركية تبحث عن المواهب"، واستعرضا فيه كثيراً من تفاصيل تحوّل الحكومة الأميركية بعد ستة أعوام من إحراز النصر في الحرب العالمية الثانية، وإبان بدايات أعوام الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إلى مراحل الاستعداد للحرب "الساخنة" التي كانت على يقين من حتمية اندلاعها بين البلدين.
وتضمن هذا الفصل عدداً كبيراً من التفاصيل والأسرار المثيرة حول بدايات المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في كوريا، وظهور بعض الشخصيات الأميركية التي استرعت اهتمام الاستخبارات الأميركية والسوفياتية على السواء.
ومن هؤلاء كان جورج فيشر، النقيب السابق في الجيش الأميركي ومؤلف كتاب "صورة سياسية للمهاجرين الروس" (Russian Émigré Politics) الذي أثار في حينه ضجة واسعة النطاق واستقطب اهتمام كثيرين على الرغم من أن طباعته اقتصرت على 200 نسخة فقط، ولم يتعدَّ عدد صفحاته 103 صفحات.
وبكثير من التفاصيل حول سيرة الشاب الأميركي كوفال، استعرض الكاتبان ظواهر تلك الحقبة الزمنية بالغة الأهمية، ومنها تحوّل المهاجرين الروس من الاهتمام والتمركز في باريس بعد الحرب العالمية الثانية، إلى ميونيخ في ألمانيا.
إلى جانب العلاقة التي ربطت جورج فيشر بروسيا، والتحاقه للدراسة بجامعة هارفارد التي شاءت الأقدار أن يتزامل فيها مع هنري كيسينجر وزبيغينيف بريجينسكي سكرتيرَي مجلس الأمن القومي الأميركي في سبعينيات القرن الماضي.
ولم تقتصر المفاجآت عند هذه الشخصيات، بل تجاوزتها إلى ابنة ستالين التي خصص لها المؤلفان الفصل التاسع من هذه الكتاب.
وكانت سفيتلانا إليليويفا (ستالين) هربت من الاتحاد السوفياتي إلى الهند ومنها إلى الولايات المتحدة، وما سبق وأعقب ذلك من أحداث كانت منها الانتفاضة الكبرى في المجر عام 1956، ومثيلتها في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، تناولها الكاتبان في الفصلين التاسع والعاشر من هذا الكتاب.
وذلك وغيره نتناوله في "الحلقة الثانية والأخيرة"، من استعراضنا لأحداث كتاب "رجالنا بين صفوف الغرباء" أو "العملاء والمنشقون الروس في الخارج".