بين كتابي Hard Time وHarsh Time فترة من الزمن. فالأول أشهر رواية للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكينز نشرت عام 1854 تتحدث عن المجتمع الإنجليزي وحب المال في مدينة خيالية شمال البلاد.
في حين الكتاب الثاني رواية للكاتب ماريو فارغاس يوسا، وهي قصة حقيقية بفارق مئة عام في مكان حقيقي في غواتيمالا عام 1954 بعد أن أطاح الانقلاب الذي نفّذه كارلوس كاستيلو أرماس حكومة جاكوبو أربينز بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، على خلفية اتهام أطلقته حكومة أيزنهاور يفيد بأن السلطة البيروفية شجعت على انتشار الشيوعية السوفياتية في الأميركتين، ما سيغيّر لاحقاً تطور أميركا اللاتينية إلى الأبد.
من هو ماريو فارغاس يوسا؟
ليس من السهل كتابة رواية تاريخية في التاريخ الحديث، إذ ما زال بالإمكان تعقب الأحداث ومعرفة تفاصيلها. لكن الكاتب خورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا المعروف باسم ماريو فارغاس يوسا المولود عام 1936، وهو سياسي سابق وكاتب صحافي وأستاذ جامعي من البيرو ولديه الجنسية الإسبانية، يُعدّ من أبرز الروائيين والكتاب في أميركا اللاتينية.
ويعتبر النقاد أن له تأثيراً دولياً وجمهوراً عالمياً. وحصل عام 2010 على جائزة نوبل للآداب، وكان فاز بجوائز عدة منذ الستينيات، مثل جائزة رومولو غاليغوس وأمير أستورياس وميغيل ديسرفنتس وسواها، كان آخرها وسام بابلو نيرودا للاستحقاق الفني والثقافي عام 2018. ويُعتبر واحداً من الشخصيات الـ 25 الريادية في لجنة الإعلام والديمقراطية التي أنشأتها منظمة "مراسلون بلا حدود".
لم يكن صعباً على كاتب بصفات وخبرة يوسا أن يغوص في قصص واقعية من التاريخ القريب، ويسبر أغوارها ودهاليزها، ويخلق عالماً متوازياً من الخيال في الشخصيات المتخيلة، ويضيف الخيال إلى الشخصيات الواقعية في واحدة من القصص التي غيّرت مجرى حياة قارة بأسرها.
ولم يتوانَ يوسا في فضح وكالة الاستخبارات الأميركية ووسائلها الخداعية في تبنّي قيادات في بلد ما والتخلص من أخرى في أي بلد لتحقيق مصالحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وربما لهذا السبب بالذات -إضافة إلى ما ينتظره القراء من أديبهم - جعل كتاب Harsh Times الذي صدر في 24 -11-2021 يحظى باهتمام بالغ، بخاصة أن للكاتب تاريخاً سياسياً وأدبياً حافلاً بالمؤلفات والمواقف.
الكتابة بلا خوف
واهتمت صحيفة "غارديان" بالكتاب وأفردت مقالاً في قسم "كتاب اليوم" بقلم الكاتب إدوارد دوكس لمراجعة كتاب يوسا Harsh Times عن انقلاب غواتيمالا الذي حدث في خمسينيات القرن الماضي، كاشفاً أكاذيب وأسرار وكالة الاستخبارات المركزية.
ويذكر دوكس أن يوسا الذي ترشح لمنصب رئيس البيرو عام 1990، ويُعدّ كاتب أميركا اللاتينية الأبرز في جيله، لا يخاف من كتابة روايات سياسية عن مصير الأمم وصراع الأيديولوجيات السياسية، فهو القادر فكرياً على صوغه بمهارة فنية ودرامية عالية مع إعطاء الشخصيات البشرية حيّزها ودورها وجوانبها كافة.
وتذكر "غارديان" أن القصة تدور في خمسينيات القرن الماضي في غواتيمالا وعناصرها فساد ضارب حتى النخاع ووكالة الاستخبارات المركزية والتآمر الدولي. ويشير الكاتب إلى أن فارغاس يوسا يراعي الحقائق التاريخية، كما ينسج حيوات شخصياته التاريخية منها والمخترعة، مما يتيح الدخول في التفاصيل وفهم الدوافع.
المؤامرة والأكاذيب
تركز الرواية التي تلازمها روح الدعابة على الانقلاب وإطاحة الرئيس أربينز ومن ثم اغتيال خليفته كارلوس كاستيلو أرماس عام 1957 كجزء من المؤامرة الدولية.
تبيّن الرواية واحدة من الأكاذيب التاريخية، فإدوارد إل بيرنايز هو مدير العلاقات العامة في شركة united fruits التي تحقق أرباحاً مذهلة من بيع الموز الغواتيمالي في العالم، وهي مرتبطة مالياً بوزير خارجية أميركا الجمهوري جون داليس وشقيقه ألان، مدير الـCIA.
يقتبس كاتب المقال من يوسا "بالطبع هم لم يخترعوا الموز... ولم يدفعوا سنتاً واحداً من الضرائب"، كما أنهم عاملوا العمال كأنهم عبيد. لكن ما حصل أن أربينز على الرغم من ذلك أراد تمرير قانون الإصلاح الزراعي لتغيير الحياة الاقتصادية والاجتماعية للملايين بشكل تدريجي".
وبدأ بتقصي الحقائق ليجد أن خطر تحوّل غواتيمالا إلى الشيوعية أمر بعيد المنال، ولا تمثل "حصان طروادة السوفياتي الذي يتسلل عبر الباب الخلفي للولايات المتحدة". لذا ومن أجل حماية أرباح الشركة، لا بد من ابتكار أمر جديد يبدو وكأنه تهديد خطير وطارئ، أي "الادعاء أن هناك مشكلة ثم أعرض نفسك كحل حتى تتمكن من الاستيلاء على السلطة".
انقلب الأمر على الرئيس وأطيح به وهو يتساءل إن كان من الممكن اختراع "شيء رائع مثل الشيوعية في غواتيمالا؟" وأضاف أن الهدف كان منع الفقر والظلم وعدم المساواة الاجتماعية، ما يدفع الغواتيماليين نحو الشيوعية.
مع هذا الانقلاب، تصبح غواتيمالا "بلداً محموماً" تسوده الكراهية لمحاربة أمر لا يهدّد على الإطلاق، وتبدأ رحلة البلد بالتراجع نحو "القبلية والعبثية".
يدخل فارغاس يوسا بحسب كاتب المقال إلى تفاصيل الحياة الداخلية للشخصيات بغض النظر عن موقفهم الأخلاقي، فتبدو كل شخصية غارقة في قرارات الحياة والموت التبعية. "نخشى على مارتا بوريرو، عشيقة أرماس، عندما تهرب من غواتيمالا في رعب في مؤخرة سيارة يقودها الوحش، جاسيل. ونشجعها عندما تغرق أسنانها في أذن المنحل هيكتور تروجيلو. ونهتم بالعقيد إنريكي، الرئيس الخسيس لأمن أرماس، وهو يزحف جلداً وعظاماً عائداً بعد بقائه خمس سنوات في سجون متوحشة".
ينقل الروائي مشاعر الارتباك والخوف من الأماكن المغلقة وجنون العظمة والشك في الخمسينيات من القرن الماضي.
ويقول كاتب المقال إن الرواية مليئة بإحساس يوسا الإنساني العميق، وهي رواية مليئة بالحياة والإصرار على التعمق في الحقيقة الأساسية للإنسانية، وفيها القوة والسياسة والعقيدة والموت العرضي بلا معنى، والحب العرضي الميؤوس منه. و"القسوة الدائمة التي يعيد تدويرها الجشع. إرث الغباء المتوارث عبر الأجيال. الطريقة التي ينتهي بها الأمر بالبشر باستمرار إلى إدارة الأشياء على حسابهم. على حسابنا".
باختصار Harsh Times قصة تواجه التاريخ الحديث من مؤامرات دولية ومصالح متضاربة في زمن الحرب الباردة، وما زالت نتائجها تظهر حتى يومنا، يدمج فيها الكاتب الواقع بخيال قصة الراوي الذي يعيد خلق الشخصيات والمواقف بحرية لا يخشى فيها لومة لائم، ويزيح الستار بجرأة عن أكاذيب وكالة الاستخبارات ولا ينسى أن يقدّم نصاً فريداً ومدهشاً وعميقاً ومليئاً بالوقائع.